علاء المفرجي
الشعر أم الرواية.. هل سيبقى الشعر ديوان العرب الى عقود وقرون أخرى أم أن الرواية هي الأقدر على تصوير معاناة المجتمعات الحديثة، والأصدق في التعبير عن آلامها وآمالها..
هل تراجع الشعر أمام الرواية في عصرنا، وهو الأصيل في خصائصه الفنية، ما الاسباب التي يظن البعض أنها جعلت الشعر يخلي مكانه الى الرواية، في العقود الثلاث الاخيرة. فمن المعروف أن نشأة الأجناس الأدبية تخضع لضرورات اجتماعية، وربما تنقرض لأسباب مماثلة، كما حدث بالنسبة للملحمة التي حلَّت الرواية مكانها كما يرى مؤرخو الأدب..
سؤال طرحناه على مجموعة من النقاد والشعراء والروائيين. فكانت إجاباتهم:
الشاعروليد هرمز: للشعر مقام، كما للرواية أيضاَ
قد يكون في هذا السؤال شيء من الحقيقة النسبية، في المُفاضلة وليس الـ «تسيُّد»، بالمعنى الضيق لكلمة تسيُّد. للشعر مقام، كما للرواية أيضاَ. لن يذهب الأمر إلى مُجابهة بين جنسين أدبيين. الشعر فن الذهول الإنساني الأول الذي فسح ممراً واسعاً لعالم الرواية كجنس أدبي لاحق، وكتمرين أكثر جسارة في امتحان المبدع لخياله الجامح نثراً. لكن ثمة عوامل كثيرة جعلت من الرواية، بشكل مُباغت، فرصة القفز على الشعر في زمننا الحاضر، منها الاستسهال في كتابتها، التي لا تقيدها ضوابط صارمة كما في الشِّعر.
ـ المُفاضلة هذه هي من نتائج الحداثة وما بعدها. استسهال بلا وازع من مسائلة. استُبدل النقد الحقيقي بانطباع إنشائي مًمتدح.
إن وضَعْنا الشعر والرواية، كلاً في أصل أهميته في الفراغ المُرتجى ملأه إبداعاً في ميزان «السوق»، كبضاعة في بورصة الربح والخسارة فالمفاضلة، اليوم، بلا شك، هي للرواية. والدليل كُثرة دور النشر العربية التي تتناسل رغم انخفاض نسبة القراء وازدياد الأمية في عالمنا العربي.
ـ للشعر سمو مَلَكي. يحتفي العالم في آذار من كل عام” بيوم الشعر العالمي» وهو خير وسام لعلو الشِّعر.
الأعمال الدرامية المُنتجة تعتمد على الأعمال الروائية الأكثر رواجاً.
كُثرة الجوائز الأدبية التي تُمنح للروايات شجعت الكثير من المتطفلين ولوج عالم الرواية.
الناقد حيدر المحسن: التحوّل يصبّ في مصلحة الشعر
تقوم عملية صنع الكتاب الأدبي على ثلاثة أقطاب؛ القارئ والناقد والمؤلف، وأيّ نقاش حول الموضوع ينبغي أن لا ينحاز إلى أيّ من الثلاثة. والحديث عن اختلاف نوع القارئ في السنين الأخيرة معروف، والظروف التي أحاطت به معلومة، ورغم ذلك فإن انتقال متلقّي الشعر من كائن مطّلع في السابق، إلى شخص يعدّ الإبداع فعلا راهنا وغنيّا، وإن كان على حساب العدد، لكن هذا التحوّل سوف يصبّ في مصلحة الشعر، حتما.
إن عدّة النقد الرئيسية هي اكتشاف المادة الحيّة في الأدب، وإذا كان الضالع بالأمر لا يستطيع التمييز بين الحيّ والميّت، لا يمكن للنقد الأدبي عندها أن يقوم بدوره الجادّ في تقييم الشعر، وفي وضع الشعراء في مكانتهم الصحيحة. المجاملات، والمصلحة الشخصية، والسذاجة في عملية التلقّي، بالإضافة إلى العامل الأهم، وهو ضعف موهبة الناقد، كلّ هذا أدّى إلى أن يعيش الشعر في الماضي في عالم الوهم أكثر منه في دنيا الحقيقة، وأدّى بالنتيجة إلى انحساره.
حقّقت الرواية انتشارا واسعا بسبب اختلاف هذا الزمان عن السابق، وإقبال القرّاء عليها يشبه ما كان يجري مع الشعر في الماضي، وسار نقّاد الرواية في نفس نهج نقّاد الشعر السابقين، والنتيجة أن مستقبل الرواية سوف يماثل ما آل إليه الشعر؛ انتشارٌ واسع، يعقبه انحسارا بدأنا نراه منذ أخذت الروايات تغادر رفوف المكتبات، وتحلّ مكانها كتب التنجيم وأسرار المشاهير.
الشاعر ناجي رحيم: مقتنع بتداخل الأنواع الأدبية
أبدأ بالقول أني لست مع هذا الرأي، لا الرواية تسيّدت ولا الشعر أفل. كلاهما وغيرهما من أنواع أدبية حاجة انسانية تعبّر عن نفسها في ظروف خاصة. أنا من المقتنعين بتداخل الأنواع الأدبية. في رواية ناجحة تعثر على فيض شعري، في فيلم أو مسرحية، الشعر لا يأفل أبدا لأنه الإنسان في دهشته الأولى، في ابحاره في الوجود في حسّه المعجون بحركة الكون، وهو حال الرواية، لا مبالغة هنا، روايات كبيرة غيّرت مفاهيم ورسمت رؤى جديدة، لأنها حاجة انسانية، نعم الرواية أكثر شمولية وبامكانها استيعاب أنواع أدبية، منها الشعر والفلسفة وعلوم انسانية مثل النفس والإجتماع، هي هنا تزدهر بالتلاقح، بالتفاعل، قلة جودة اصدارات شعرية تدفع قاريء إلى الرواية، كما ومقولة أن الشعر لايُباع جيدا تردّده ولا تشبع دور نشر، أسماء عراقية، عربية وعالمية كتبت الرواية باحتراف وهم أصلا شعراء، هنا التلاقح الذي أعني، الأمر يتعلّق بالإستعداد النفسي والطاقة التعبيرية، أنا مثلا لا طاقة لي، لا صبر، على كتابة رواية لأن مزاجي لحظي، أكتب في حالة بوح، في دفق لحظي، الرواية بحاجة إلى برمجة وتنظيم وروية، ليست لحظة آنية بل امتداد في لحم العالم، مرة أخرى أنا من المقتنعين بتداخل الأنواع الأدبية، لا يأفل نوع ولا يتسيّد آخر.
الناقد قحطان الفرج الله: الشعر يحظى بالكثير
المتابع للمشهد الإبداعي العربي عمومًا والعراقي بالخصوص، يلحظ بسهولة نشاطًا كبيرًا للكتابات السردية، في العقود الاخيرة، ولكن هذا لا يعني افول فنون ابداعية اخرى كالشعر مثلا، او المسرح، والقصة القصيرة، فالأنواع الأدبية عمومًا لا تخضع للتنافس والسباق، أو التفاضل الطردي، فلازال الشعر يحظى بالكثير من النشاط، إن أنواعًا إبداعية كثيرة ومختلفة توصف بالريادة مع ان هذا التعبير فيه الكثير من النقاش المتباين بين نقاد الادب فهل يمكن ان تكون ريادة النوع الادبي هي الاسبقية في الظهور ؟! أم هي تخضع لطابعها الزمني في الانتشار والهيمنة!؟.
إن زخم الاحداث العالمية، والمحلية، والتطور المدهش في أدوات التواصل بين البشر أتاح الفرصة للسرد بالظهور بشكل بارز كي يقدم الناس والشعوب بعضهم لبعض من خلال (الروية) وهذا النوع الفني يعد الان الوسيلة الامثل للشعوب لكي تستكشف وتكتشف وتطور موضوعات وحياتها.
الشاعر كريم راهي: الفارق النقدي الكبير
مبدئيّاً.. أرى أن كتابة الشعر هو مسألة غاية في الخصوصيّة والسريّة في آن، فالشاعر ما أن يضع الكلمة الأولى في قصيدته حتّى يتملّكه شعور بأنه يمارس فعلاً سريّاً للغاية لا يجوز اطّلاع الغير عليه ما لم يأذن هو بذلك، أي أن يدفع بما كتب للنشر. وهنا تكمن بالطبع عملية تحويل ما هو ذاتي محض إلى موضوعي موجّه للعموم.
بعد الاختفاء المفاجئ للمنظومة الشيوعيّة وحلول عصر «القرية الصغيرة» والاتصالات الفضائية وسرعة الحصول على أية معلومة بنقرة زر، أصبح العالم مكاناً مكشوفاً للغاية، ولم يعد هنالك مكان سرّي للعزلة والتأمّل، فأنت كشاعر محكوم عليك بأن تكون تحت بقعة الضوء على الدوام، كما أن النشر المتاح للجميع في وسائل التواصل الاجتماعي خلط مفاهيم الجودة الشعريّة، ولم يعد بوسع أحد -إلّا القلّة المتمرّسة- تمييز ما هو صالح عمّا هو طالح في هذا الجانب، فحدث أن تحوّل الشعر الحقيقي إلى بضاعة كاسدة، وانتشرت مجاميع شعرية لـ «كتّاب» طارئين على الشعر على حساب كتب الشعر الرصينة.
وبالرغم من أن الرواية لا تنكر فضل السوشيال ميديا على انتشارها، إلا أنها على العكس، فقد جاءت وهي تحمل مادتها بالشكل الذي لا مجال فيه للمواربة، رواية جيّدة أو العكس، وهنا رجحت كفّة الكتابة المكشوفة على ما هو تأويلي، للفارق النقدي الكبير ما بين نوعي الكتابة هذين.
الروائي علي لفتة: هل توقفت المهرجانات الشعرية
الأدب هو فعل إنتاح وقراءة.. ولأن القراءة بحاجة الى كل الأجناس الأدبية وغير الأدبية، فإن لا جنس يمكن له أن يزيح الآخر عن مقعده، إلّا لأسبابٍ عديدة، ليس من بينها تسيّد جنسٍ على آخر، بل لتراجع دهشة الكتابة لدى هذا الجنس عن غيره.
ولأن الرواية هي القراءة لإنتاج متخيّل لا تحتاج الى تفعيل العقل وتغليبه بكلية فاعلة، كما في الشعر مثلا فإنها تكون أكثر حميمية في التفاعل القرائي بين العاطفة التي تمنحها الفكرة وبين العقل الذي تمنحه الصياغة، لهذا فأنها تكون هي الطاغية في العلاقة القرائية.. وإلّا هل توقّفت الصحف في البلاد العربية والعراق خصوصا عن نشر النصوص الشعرية..؟ هل توقّفت المطابع عن إصدار المجاميع الشعرية؟ هل توقّفت المهرجانات التي هي أغلبها شعرية وليست سردية إلّا ما ندر؟
إن هذا الأمر ايضا يتعلّق بالنقاد لدينا.. فهم الذين جعلوا الرواية تأخذ هذا المنحنى العالي من التسويق، وكذلك دور النشر التي تهتم بإصدار الروايات على حساب الأجناس الادبية الأخرى.. فالشعر ليس وحده من يعاني عدم الالتفات له، بل حتى النقد والقصة القصيرة ايضا.. وأنا أرى كروائي وقاص وشاعر وناقد، إن الآمر مرتبط ايضا بالقارئ الذي يتأثر بآراء الآخرين النقدية وغير النقدية لهذا المنتج أو ذاك، كما أنه يبحث عن التفاعل العاطفي المفقود في الأجناس الأخرى التي ذكرت، ناهيك عن سبب يراه البعض مهما وهو اتراجع مستوى الإبداع في الإنتاج الشعري وحتى القصصي، فضلا عن غياب النقد الفاعل غير المتأثر بما هو قادم إلينا وبقائه يكرّر المقولات العابرة عبر الترجمة؟
إن الأدب ليس إنتاجا فقط، بل هو إبداع تدويني وتسويق اعلاني وقراءة فاعلة ونقد تقويمي, وأيّ اختلال في هذه العوامل يعني نقصان التلقّي، وهو ما لم يحصل مع الرواية بقدر ما، وليس بالعموم. وهو الامر الذي جعلنا نقول: الشاعر يكتب شعرا في النهار ويقرأ رواية في الليل.
الروائي يوسف أبو الفوز: الرواية سجل شامل لأحوال المجتمعات
يوما قال الفقيد المفكر هادي العلوي، وكان في العراق حينها 30 مليون نخلة، بأن (تحت ظل كل نخلة عراقية يجلس شاعر عراقي)، لكن كل هذا تراجع الان، عدد النخل، ودور الشعر، وتقدمت الرواية كجنس أدبي لتتسيد المشهد الثقافي في العراق وفي عموم البلاد العربية. كيف حصل ذلك؟
لن نختلف حول ما يجمع عليه النقاد والدارسين لشؤون الادب من كون الشعر ولقرون طويلة كان هو الجنس الأدبي الأنسب لحياة القلق والترحال والرعي والبداوة للمواطن العربي عموما، سواء الذي عاش في الصحراء أو في الريف، فالشعر كان الأنسب لكونه أبن اللحظة الآنية والانفعال الذي يقتنصه الشاعر في صورة شعرية ليعرض فيه أحاسيسه وانفعالاته وانشغالاته بقضاياه.
اما الرواية، فهي ابنة المدينة، والمدينة هنا ليست الأبنية والشوارع، وانما البيئة وتعدد الطبقات، والمجتمع المختلط وثقافة الحوار وغير ذلك. ونعرف بأن الرواية بدأت بنصوص متواضعة، وتطورت مع تطور المجتمع العربي وتأثرت كثيرا بالنهضات الفكرية، فهي كانت نتاج التواصل التاريخي مع الثقافة الاوربية وتأثير الترجمة، والمحاكاة، الخلق والإبداع. وان ما يؤهل الرواية لتكون هي (ديوان الادب) كما يقال، هو طبيعة النص الروائي، كونه جنس أدبي يمكن للكاتب من خلاله ان يقول أشياء كثيرة، فهي الأنسب للكاتب مستعينا بحرية الحركة في المكان والزمان، وتعدد أساليب السرد للبوح بالكثير ليقدم رسالته. هكذا أصبحت الرواية سجلا شاملا لأحوال المجتمعات وما تعانيه من هموم تتعلق بالحرية، الهوية، المنفى، الحروب، احوال المرأة والاستبداد السياسي والديني وغير ذلك، وأهل ذلك الرواية لتكون سجلا تاريخيا جماليا لمسيرة المواطن العراقي في العقود الأخيرة.