طالب عبد العزيز
من تلفزيون الكويت، وفي ثمانيات القرن الماضي، كنا نشاهد في البصرة، برنامجاً بعنوان (الحدائق جنة الاحلام) وهو برنامج مصور عن الحدائق التاريخية في العالم، مثلما هو رحلة شيقة، تنقلنا الكاميرا فيها الى الجنان والغابات والمتحف والكاليرهات، التي صنعها الانسان، وظلت خالدة في الزمن، فاصبحت مقصد السياح، وقبلةَ كلِّ متطلعٍ للجمال، حيث لا يجد المشاهدُ ما يعيبه هناك.
تذكرتُ البرنامج ذاك وأنا أمرُّ بالسيارة بالقرب من الفسحة الخضراء الصغيرة في تقاطع ساحة الطيران بالبصرة، حيث تجتمع بعض الاسر البصرية، عقيب مساء كل يوم، لتمضية سويعات مقتطعة بين شجيرات الأكاسيا وازهار عين القط والمخملي والختمة على العشب الاخضر، لاشغال الاطفال بعيداً عن تعلقهم بالهواتف الذكية ولعب الالكترون.. تذكرتُ ذلك يوم اضطرت بلدية البصرة وتحت تهديد فريق ديني مسلح الى هدم نصب السندباد البصري، وتحطيم سيقان حورياته الجميلات، اللواتي خرجن من البحر تواً، واستبدالها بقطعة من مقبرة حديثة، صممها الفنات لتحاكي إحدى غضبات الشباب العراقي، ضد النظام آنذاك.
لم يعد القادة المسلحون يعتنون بالمكان، فقد انشغلوا بما هو أهم وأنفع، ولم تبدِّل البلدية اسم الساحة، فقد ظلت ساحة للطيران مرة، ولدائرة التقاعد أخرى، كذلك الناس لم يجدوا في المتغير المكاني ما ينكِّد عليهم سويعاتهم، حيث انشغلت النسوة بتعقب خطى الاطفال على العشب، وأمعن الاطفالُ في تعقب الفراشات، أوما توهموه في اضوية المركبات من العصافير والفواخت، لكنَّ فريقاً مسلحاً آخر وجد في التقاطع هذا فسحة لاستعراض مآثره، في استثمار واضح لوجود هؤلاء، ولجعل مستعملي المركبات يلوون بأعناقهم ناحية الصور الحديثة تلك، الامر الذي جعل من الحديقة الصغيرة مكانا لتنافس المسلحين، وتعليق المزيد من الصور، مع أن بعضهم لم يسقط في آخر معركة له.
في بيته الضيق، ومنذ الصباح الى المساء يعاني المواطن العراقي من مكبرات صوت باعة الخضار والفاكهة، ومن الاصوات النشار في سيارات مشتري الحديد والنحاس الخردة (العتاكة) ومن ارتجاج الأرض تحت عجلات مركبات الحمل، ومن ارتفاع الأسعار الجنوني، ويعاني من كل شيء حوله، في دوامة لا تطاق من المشاكل في البيت والمدرسة والدائرة والسوق النظام الاجتماعي –القبلي ومن محطات الوعظ الديني التي تلهث خلفه وتتوعده بالنار والجحيم وعذاب القبر ومن جملة منغصات أخر لا مجال لذكرها جعلت من حياته سببا لغضبه السريع، و اضطراره لاستخدام السلاح في اي مواجهة له مع نفسه أو مع الآخرين.
تحرص حكومات العالم على توفير أعلى قدر ممكن من الطمأنينة والسلام لمواطنيها، وتتفنن في رسم خرائط مدنها، وابتكار أماكن التنزه والترفيه، على وفق الطرق الحديثة والجميلة، وتحاول بما أوتيت من العقل والنباهة إلى خلق الاجواء المناسبة لنبذ العنف وكراهية الآخر وابعاد شبح الحروب والشحن السياسي والديني والطائفي عبر منظور مديني يجعل من الحياة ممكنة، لكننا، وفي حضرة حكوماتنا بتنا على تماس حر ومباشر مع أقبح صور الموت والبغضاء والكراهية. الحدائق العامة والتقاطعات والمتحف والملاعب الرياضية والمولات وكل المرافق العامة وجدت لإسعاد المواطن، ولجعل حياته أقل قبحا وكدراً وليست أمكنة لاستعراض البطولات والمآثر وبزّ الآخر المختلف.