لطفية الدليمي
أجاد الجاحظ، عبقري النثر العربي، في وصف البخلاء في الكتاب الذي صنّفه عنهم. أرانا الجاحظ في كتابه أصنافاً من بخلاء تسابقوا في إشهار بخلهم حتى لكأنّ البخل صار عندهم ميزة محمودة، وهُمْ في مجملهم كانوا بخلاء اللقمة، يضنّون بها على أنفسهم وأهل بيتهم.
أعرفُ كثيراً من الشغيلة المكافحين في ميدان الثقافة العراقية، مؤلفين ومترجمين وصانعي أفكار وكاتبي مقالات، وأتابعُ ماينشرونه من كتبٍ أو على صفحات الصحف والمجلات والمواقع الألكترونية، وكم يخدشُ قلبي أن أرى التعليقات على منشوراتهم لاتتجاوز أصابع اليد أو اليدين في أفضل الأحوال. كم يتحمّل هؤلاء ؟ يؤلفون أو يكتبون أو يترجمون، ثمّ ماأسرع ما تجد كتبهم (مسروقة) ومعروضة بصيغة PDF على النت. أبَعْدَ كلّ هذا نبخل بكلمة طيبة على منشور لهم في مواقعهم الالكترونية أو صفحاتهم ؟
أمامي قائمةٌ بمئات الأسماء من عراقيين وعرب من كُتّاب إعتزمتُ الكتابة عن منجزهم ومسالكهم الفكرية، أو ربما مراجعة لأحد كتبهم؛ لكنّ خذلانات الجسد والأعباء المتراكمة تمنعني من الكتابة إلّا بمقدار لاأحسبه مقبولاً، وهو مايؤذيني ويجعلني أعيشُ تحت ثقل دَيْن أراه واجب السداد ولم أفِ به كما أتمنى.
إهتديتُ بعد سنوات إلى أنّ الدافع المحرّك لهؤلاء هو دافعٌ ميتافيزيقي كنتُ قدّمتُ تشبيهاً له في مقالة سابقة لي بأنه شبيه عمل النحلة وهي تقدّمُ لنا عسلاً طيباً، أو نخلة تقدّمُ لنا رطباً شهياً. هل رأيتم نحلة تعلنُ إضراباً عن صنع العسل، أو نخلة تبخلُ بتمرها على بني البشر ؟
البخلُ أشكال وألوان، ومن غريب مااختبرتُهُ قبل بضعة أيام على موقع اليوتيوب أنّ أحدهم راح يصرخُ لاعناً بخل مشاهديه الذين يضنّون عليه بِـ (Like) و (Subscribe) وتفعيل زر الجرس. كانت محاججته بسيطة ومباشرة: ماالذي ستخسرهُ لو فعلت هذا الذي لن يقتطع من وقتك سوى أدنى من دقيقة. هو مراوغ كذوب يبتغي تحقيق منفعة مالية، وإذا وجدها لم تتحقق بالعدد المطلوب راح يصف مشاهديه بالبخلاء. ربما هو بهذا الفعل يدشّنُ عصر البخل الرقمي !!
دعونا من هؤلاء، بخلاء اللقمة والبخلاء المفترضين في العصر الرقمي، ولنتفكّرْ في بخلاء من نوعٍ آخر – بخلاء الكلمة الطيبة، هؤلاء الذين يضنّون بالكلمة الطيبة المستحقة تجاه صنفٍ من البشر يكدحون من غير ابتغاء لمقابل.
قلْ كلمتك الطيبة بحق من يستحق من صُنّاع الفكر أو صُنّاع الجمال. قلْها اليوم قبل أن تقعُد ملوماً محسوراً بعد فوات الأوان.
كثيرون منّا يعملون بصمت وهدوء ومن غير جلبة فسيبوكية أو ضجيج إعلامي. أنا نفسي كثيراً ماشهدتُ عاملين من هذا الصنف، يؤلفون الكتب أو يترجمونها، ويكتبون من غير تعب أو تخاذل في عصرٍ كلُّ مافيه يدعو للغثيان والتخلّي عن المشاريع الطموحة. أتساءلُ دوماً: ماالذي يدفعُ أمثال هؤلاء لهذا العمل الدؤوب ؟ أهو المال ؟ أبداً ؛ فكلنا نعرفُ أنّ مجال نشاط هؤلاء لايأتي لهم سوى بأقلّ المردودات المالية بالقياس مع نشاطات أخرى؛ ومع هذا يدأبون على العمل ولاتحدّثهم أنفسهم بالفتور أو الإستقالة من عمل غير مجزٍ بالمقاييس المالية.
الكلمة الطيبة صَدَقة، هذا في الميدان الانساني العام ؛ أما مع شغيلة الفكر ومنتجي الثقافة وصُنّاع الكتاب فإنّ الأمر يتعدّى حدود الصدقة (الجارية) إلى أمرين متلازميْن: أن تردّ لهؤلاء بعضاً من الدّيْن المعنوي المستحق لهم بسبب نشاطهم الفكري المميز، وأنّ تقوم كتابتُك عنهم أو حتى قول كلمة طيبة بحقهم إلى شحذ هممهم وتنبيه الآخرين إلى قيمة منجزهم، وهذا أقلّ مايستحقون.
لكن برغم هذه الحقيقة فلابدّ من القول أنّ الإنسان ليس روبوتاً يعملُ بوقود ميتافيزيقي. إنّ كل امرءٍ لفي حاجة دائمة إلى كلمة طيبة تعمّرُ قلبه بالقدرة على المطاولة، وتشدُّ أزره وتُنعِشُ روحه وترصُّ أحجار بُنيانه الفكري والجسدي.