TOP

جريدة المدى > عام > ذكرياتي .. صفحات من تاريخ نضالي

ذكرياتي .. صفحات من تاريخ نضالي

نشر في: 27 مارس, 2022: 11:24 م

علاء المفرجي

أصبحت كتب السيرة والمذكرات الشخصية، وخاصة تلك التي يكتبها سياسيون وأدباء من الكتب التي تلقى اقبالا واسعا من قبل جمهور القراء،

وقلة من كتب المذكرات والسير هذه تحظى بالذيوع والاهمية.. إلا من كان صاحبها من الذين نالوا منصباً مؤثراً أو قدم أعمالاً استثنائية، وهو المؤلف الذي لا يجانب الصواب والموضوعية والصدق، في التناول، لتنال مذكراته هذه مصداقيتها التاريخية، بما تنطوي عليه من عدم الوقوع في المبالغة أو إعطاء نفسه ما لم تكن تتحلى به يوما، وطمس حقائق تاريخية متفق عليها.. وبذلك تنال هذه السيرة قوة الوثيقة التاريخية.

ولعل ما قدمه السياسي المخضرم ورجل الاعمال المعروف فاروق مصطفى رسول يدخل في هذا الإطار، حين حاول ان يلخص سيرة حياته السياسية والعملية في كتاب حمل عنوان (ذكرياتي).

أهمية هذا الكتاب تأتي من كونه يسرد جانباً مهماً من تاريخ الحزب الشيوعي، من وجهة نظر أحد كوادره خلال تلك العقود المحتدمة من تاريخ حزب والتي شهدت أحداث دراماتيكية، ألقت بظلالها على الواقع السياسي في العراق. والكتاب يأتي في سياق عددا من كتب المذكرات التي كتبتها كوادر قيادية في الحزب، والتي حاول البعض منهم أن يزكي شخصيته، بأن يترفع عن بعض اخطاءه والأخطاء التي وقع فيها الحزب، مثلما حاول البعض الأخر ان يمنح لنفسه مفاخر ليست له بأية حال.. وكان ذلك سببا ففي ضبابية الكثير من الاحداث التي عصفت بالحزب، لتباين الآراء وتعارضها، وأيضا لعدم اعتماد الموضوعية في سردها، وهذه من أهم عناصر كتابة السيرة الذاتية.

إذن فالهدف والغاية التي تحققها كتابة السيرة الذاتية من صاحبها هي تخفيف العبء عن عاتقه بنقل التجربة الذاتية إلى الآخرين، ودعوتهم إلى المشاركة فيها، فهي توفر فرصة له ليريح نفسه، بالاعتراف وليحصل على المتعة الناتجة عن الصدق والقدرة على التأثير، ويكتب ليفيد الناس بتجاربه الذاتية التي تكتب مرة واحدة فقط؛ لأن نص السيرة الذاتية نص مهم في الحياة والاجتماعية عنده الذي كتبه، وذلك نابع من أنه نفسه كان موضوعاً له في ذلك.

وكتاب السياسي السابق ورجل الأعمال فاروق مصطفى رسول (ذكرياتي) لم يأخذ سياق المذكرات الشخصية التي أسلفت، في أن يتناول بالنقد والتشهير، بعض التفاصيل في مسيرة الحزب، فقد أراد في مذكراته هذه أن تكون «شيئا هاما يجدي نفعا، ليست لكونها ذكريات عزيزة في أعماقي فحسب، بل يمكن أن تنفع كوثائق تاريخية، خاصة لتوضيح الوضع السياسي والحياة السياسية الداخلة للحزب الشيوعي العراقي والصراعات المحتدمة القوية في السنوات التي لعبتُ فها دورا مشهوداً .. وكنت مطلعا، عن كثب، على مواضيع، ومسائل مهمة على صعيد كردستان والعراق بشكل عام.» كما ذكر في متن كتابه.

فالسيرة الشخصية (ذكرياتي) كتبها هو، بمعنى أنها ليست سيرة غيرية قام بها آخر عنه، لذلك حرص المؤلف استعراض سيرة حياته من طفولته، احداث، وحيوات، وأمكنة، ليصل الى رحلته العسيرة والصعبة في العمل السياسي، والحزبي.. ليشتبك سرد هذه السيرة بالتاريخ مستعينا بالذاكرة أولا، وشهادة اصدقائه والذين كانوا شهودا على مسيرته، لتوثيق ما تركته هذه السيرة عبر مسيرتها الحياتية، وليتضوع منها نضال أمة وشعب، كانت لهذه الشخصية تجسيدا حقيقيا لها..

فسيرة الرجل هنا تمثل سيرة جيل كامل، وتجسيدا لعصره، فقد كان صاحب (ذكرياتي) جزءا منه، متبصرا تجلياته التي استقرت في وعيه. فقراءتنا لهذه السيرة كجيل لاحق لكاتب السيرة، تمنحنا (كوثيقة) فرصة الاطلاع ومقارنتها بوثائق أخرى بوصفها شاهد على مرحلة دراماتيكية من تاريخ العراق.

فالكتاب كان أميناً للأحداث التاريخية والمسيرة الصعبة للحزب، فهو لم يزعم بطولة وشجاعة ما، مثلما لم يُضخم الاحداث أو ينسب مجدا شخصيا له، على حساب الوقائع التاريخية الحقيقية.

وما يزيد بأهمية الكتاب ، هو تناوله واحدة من أهم الاحداث التي مر بها بالحزب الشيوعي في منتصف الستينيات من القرن المنصرم، وهو تناول لم يسبقه اليه أحد على حد علمي، وأعني هنا ما رافق تأسيس (تنظيم القيادة المركزي)، الفصيل الذي أنشق عن الحزب، وأعتمد في منهجه على الكفاح المسلح.

(ذكرياتي) الذي يضم تسعة فصول، إضافة الى ملحق بالوثائق، التي توثق لتلك الفترة من تاريخ العراق السياسي المعاصر، وتاريخ الحزب الشيوعي العراقي، وبعض الصور الخاصة بالمؤلف.. يتناول في ثمانية فصول منه طفولة المؤلف والتاريخ السياسي له، فيما يتناول بفصل واحد وهو الفصل المعنون (مرحلة ما بعد النكسة) انطلاقته الكبيرة في عالم التجارة والاعمال.

عن سيرة حياته، يشير المؤلف الى انتمائه الى عائلة شيخ مشهور، وخليفة في سلوك الطريقة من خلفاء ومريدي الحاج كاك أحمد الشيخ. وكان له تأثير كبير في نشأة المؤلف، بإرشاداته الى التقرب من عالم القراءة، وتربيته على ذلك النهج التربوي، وهو الذي أمضى حياته بالتدريس والكتابة. وكان جده الحاج ملا رسول – كما يقول في كتابه - قد انتزع لأول مرة راية الانكليز المنصوبة فوق سراي السليمانية ورماها على الارض ورفع مكانها راية حكومة كردستان، يوم تم إعلان تنصيب الشيخ محمود الخالد ملكا لكردستان. ويقال أن الشيخ وقتما أصبح ملكا لكردستان، طلب من الحاج ملا رسول أن يصبح وزيرا للعدل، لكنه أبى ذلك.

ويتحدث الكاتب كثيرا عن الشيخ محمود، ونضاله من أجل حرية كردستان.. نقلا عن أبيه وجده، «فقد كان الشيخ رجلا متواضعا لا يتعالى ولا يتباهى، ولا يخفي أنه كان شاعراً بشوشاً طيب المعشر. كما كان والدي عاملاً وشاعراً، وعليه أحبا مجالسه البعض ليتجاذبا أطراف الحديث، الذي يتمحور ليلاً ونهاراً حول الكرد والتاريخ والشعر والأدب والعلوم الدينية.» ص63

وعن علاقته صغيرا معه، «كان الشيخ يحلو له أن يحادثني ويصغي الى أسئلتي، وبدوري كنت طفلاً محباً لطرح الاسئلة والاستزادة من معرفة الأخرين» وعندما أراد أن يختبر ذكاءه، سأله عن شقيقه عزالدين (الديب المعروف عزالدين مصطفى رسول)، لماذا لم يزره في قريته، وعندما تردد قليلا في الاجابة، قال الشيخ « له: انه شيوعي، وقد يعتبرني إقطاعياً، فكانت اجابتي: يفترض أن يكّن الشيوعيون الحب لكم، لأن الطرفين يعاديان الظلم والحكن الملكي العراقي والانكليز.» ص 65

دخل المؤلف المدرسة قبل أن تكتمل سنه للقبول في المدرسة، كمستمع. وفي الصف السادس الابتدائي، انخرط في صفوف اتحاد الطلبة، ليكمل بعدها دراسته في ثانوية السليمانية، ثم تخرج عام 1959 منها، والتحق بكلية التجارة، ومن هناك بدأت علاقته بالحزب الشيوعي، الذي يفرد له صفحات كثيرة من كتابه. حيث يتحدث عن تنظيمات الحزب الشيوعي العراقي، وصراع بعض قادته وتأثيراتها.. فيشير الى عمل الشهيد سلام عادل بعد عودته في أواخر عام 1962 من (النفي الإجباري) في الاتحاد السوفيتي، على إعادة توجيه سياسة الحزب في مسألة استلام السلطة، وإعداد مستلزمات ذلك ابتداءً من قيادة الحزب نفسه، حيث قام بطرد كتلة الأربعة: عامر عبدالله، بهاء الدين نوري، زكي خيري، الشهيد محمد حسين ابو العيس، الذي كان قد تراجع بقوة عن نشاطه التكتلي قبل استشهاده البطولي.

ويتحدث بشكل مسهب عن أحداث عام 1963، التي واجه فيها الحزب حملة قمعية شرسة من قبل الفاشية البعثية، حيث عاد مع مجموعة من الطلبة بعدا ان سلِموا من حملات الاعتقال الى مدن كرستان، لكنه ما لبث أن عاد الى بغداد في شهر آب 1963، بنصيحة من أبيه: “إذا قبضوا عليك حافظ على شرفك ولا تخذلني.” ص110

يستذكر المؤلف في هذا السياق، انتفاضة 3 تموز. فبعد الحملات الفاشية التي شنها الجيش والحرس القومي وقوى البعث في 8 شباط على تنظيمات الحزب، وإصدار بيان (13) لجلاوزة البعث بهدف إبادة الشيوعيين، قام أبطال الحزب ومؤيديهم بهجوم ثوري لإسقاط النظام، حيث استولوا على الجزء الاكبر من أهم معسكر في العراق، وهو معسكر الرشيد، وكان يمكن أن تتحول هذه الانتفاضة الى ثورة عارمة، لولا التسرع وأسباب أخرى، وقاد هذه الانتفاضة الشهيد العريف حسن السريع ومجموعة من الجنود المضحين..

ثم يسرد فشل هذه الانتفاضة، وكيف أقتاد البعثيون ابطال هذه الانتفاضة وشيوعيين أخريين، الى ابشع (هولوكوست) عرفها التاريخ السياسي للعراق، ونعني بها ما سمي (قطار الموت)، حيث شحن القطار بالحمل الثقيل، وأوعز الى سائقه ان يقوده على مهل الى السماوة، حيث السجن الرهيب (نقرة السلمان) وقدر عدد الضباط الموجودين في القطار بالألف.. وكان نعشا حقيقياً في شكل قطار. ولكن ما أن علم سائقه البطل عبد عباس المفرجي (والدي رحمه الله) حتى انتفضت قيم الإنسانية والكرامة لديه، وراح يقود قطاره بأقصى سرعة.

ويواصل المؤلف سرد ذكرياته، ليقف عند منعطف مهم في مسيرته، وهو دخوله عالم الأعمال الذي حقق فيه نجاحاً ملحوظا، حيث بدأه في مشاريع صغيرة برأسمال حصل عليه بمغامرة بيع بيت والده الذي تركه للعائلة، لتنطلق مسيرته في هذا المجال في السوق والمقاولات ومشاريع أخرى. يقول الشاعر شيركو بيكه س عن إرهاصات نجاحه في هذا الأمر: “باع حذاءً له بعانتين (عملة عراقية قديمة) لصبي، ثم أعطاني فلساً. حتى في ذلك الوقت كان يملك عقلاً تجارياً.” ص26

ويشير هو في كتابه عن عالم الأعمال الذي دخله: “لكي يفهم الكثيرين عن عملي ورأسمالي، أقصد جزءاً كبيراً من الجيل الحالي، أقول أن الجرأة والإرادة القوية وسعادة الأنسان ورغبته في الإسهام في اقتصاد بلده تمحوه وتزيل العراقيل، وتربط العلاقات الحسنة والصدق والنزاهة بين الناس، وتقود أعمالهم الجماعية المشتركة إلى النجاح.” ص334

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

هاتف الجنابي: لا أميل إلى النصوص الطلسمية والمنمقة المصطنعة الفارغة

جنون الحب في هوليوود مارلين مونرو وآرثر ميلر أسرار الحب والصراع

كوجيتو مساءلة الطغاة

علم القصة: الذكاء السردي

موسيقى الاحد: 14 رسالة عن الموسيقى العربية

مقالات ذات صلة

تصورات مغلوطة في علم السرد غير الطبيعي
عام

تصورات مغلوطة في علم السرد غير الطبيعي

د. نادية هناويإنَّ الإبداع أمر عام لا يختص بأدب دون أدب ولا يكون لأمة بعينها دون غيرها كما لا يؤثر فيه تفوق مادي أو تقدم حضاري، بل الآداب تأخذ وتعطي ولا يهم إن كان...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram