لطفية الدليمي
التطهير العرقي ليس بغريب عنّا. كان، ولم يزل، وسيظلُّ إحدى الوسائل التي قد يلوذ بها بعض البشر من ذوي الجاه والسلطة في سبيل محق الوجود البشري لطائفة من البشر مخصوصة بميزات ثقافية واجتماعية خاصة. الهنود الحمر وبعض القبائل الأفريقية أمثلة صارخة على هذا التطهير العرقي، ثمّ أعقبتها حملاتُ التطهير النازية التي تقنّعت بلافتة علمية كاذبة عنوانها (تحسين النسل البشري) تماشياً مع حلم بلوغ الكائن النيتشوي كامل المواصفات العقلية والجسدية.
كان أمراً غريباً أن أسمع في بعض نشرات الأخبار الخاصة بالحملة العسكرية الروسية في أوكرانيا خبراً ربّما لم يحصل على مايستحقه من اهتمام جماهيري بات ينصبُّ على الوقائع الساخنة وتبشيرات بعض السوداويين برؤى قيامية مظلمة ستتسبّبُ بها أسلحة نووية من شتى الأصناف والقدرات التدميرية. يشيرُ الخبر الذي عنيته إلى أنّ السلطات الروسية صارت ترى في الحجب المقصود لكلّ خبر أو إشارة إلى فعالية روسية فعلاً يرقى إلى مرتبة التطهير الرقمي. فكّرتُ في أمر التطهير الرقمي هذا من جوانب عدّة، ورأيتُني أنحتُ له مقابلاً إنكليزياً هو Digitocide ، على سياق التطهير العرقي Genocide، ثمّ طافت بي أفكاري بعيداً إلى حيث الممكنات الغريبة والآثار القاسية التي يمكنُ أن تنشأ عن هذا الفعل المدمّر.
إذا ماتحدّثنا عن التطهير الرقمي فسيكون في عداد الأمر المفروغ منه أن نقرنه بموضوعة الخوارزميات الحاكمة للعالم الافتراضي الذي نعيشه كلّ آن. بات في حُكم القناعات الشائعة أنّ التقنية الرقمية والتطويرات المعلوماتية عولمت الديمقراطية وأتاحتها لمن يفتقدونها في بعض أجزاء العالم الموصوف بأنه حقيقي. تلك أخدوعة كبرى علينا الانتباه إليها. الحقيقة في هذا الشأن، والتي ترقى إلى مرتبة القانون الصارم، هي أنّ الخدمة التي تُقدّمُ لك مجاناً ليست مجانية لأنّك ستكون العنصر البشري الذي يخلق الثروة لمزوّد هذه الخدمة، وأنّ هذه الخدمات تتيحُ لك أن تبوح بما تشاء وكيفما تشاء وفي أي وقت تشاء. هي مقايضة مربحة لهم وليس لك، وفي المقابل لاأحد سيحاسبك على جودة أفكارك أو رصانتها أو أصالتها. العالم الرقمي هو برجُ بابل الحقيقي حيث حرية تمازج الأفكار وبلبلة الألسنة بل وحتى إطلاق الشتائم. لاأحد سيهتمُّ لما يقولُ (س) أو (ص) أو (ع). مع استثناءات قليلة في محيطنا العربي. الأمر في نهاية المطاف تسرية عن نفوس محتقنة لن تكلّف الأرباب الرقميين شيئاً، وفي الوقت ذاته ستملأ خزائنهم مالاً ساهمتَ أنت وأمثالك في مراكمته لحسابهم. لقلقة لسان في مقابل المال: معادلة رقمية غير متوازنة في حساب القدرة والأطراف المستفيدة، تتخذ من الديمقراطية الرقمية ستاراً زائفا لها.
الديمقراطية الرقمية المزعومة؛ وإن كانت ليّنة مطواعة تقدّمُ شرابها السائغ للجميع لكنها ذات أنياب سامة دونها أنياب الكوبرا إذا ماأرادت معاقبة فرد أو دولة. هنا تكشّرُ الديمقراطية الرقمية عن أنيابها، مستعينة بأنساق معقدة من الخوارزميات الكفيلة بحذف أية إشارة إلى موضوعة محدّدة. الخوارزميات هنا ستلعبُ دور الجلّاد الذي لن يرحم.
التطهير الرقمي أقسى فعلاً وأشدُّ فتكاً من العقوبات الدولية التي خبرها العراقيون مثلاً أيام الحصار المميت. سيكون التطهير الرقمي أقرب إلى السقوط في ثقب (معلوماتي) أسود، حيث يسود الشلل الرقمي التام.
ليس التعاطي الرقمي مع العالم كله عسلاً مشتهى. يجب علينا معرفة أن السهولة التي نعمل بها ونحن نضغط على لوحة مفاتيحنا ونتبادل من خلالها الأفكار مع العالم الرقمي إنما هي فعالية شديدة الوهن والعطب، وهناك من يمسك المفاتيح التي تتيحُ له خنق من يشاء معلوماتياً، ومن يختنق معلوماتياً سيكون كمن نُزِعت عنه أجهزة دعم الحياة.
نحنُ نعيشُ عصر دكتاتورية الخوارزميات، وسيئ الحظ وحده من يقعُ في قبضة هذه الدكتاتورية أو يحيدُ عن تعاليمها الصارمة التي وضعها الأسياد الرقميون في عالمنا.