TOP

جريدة المدى > عام > الهولوغرام في الرواية متعددة الأصوات

الهولوغرام في الرواية متعددة الأصوات

نشر في: 3 إبريل, 2022: 10:16 م

د. نادية هناوي

ليست علاقة الفن بالايديولوجيا يسيرة خالية من التعقيدات؛ وإذا كان التوسير قد رفض اختزال الفن في الأيديولوجيا،

مؤكداً أن الفن ليس مجرد انعكاس لها، فإن بيير ماشريه رأى أنّ الفن يكشف لنا حدود الايديولوجيا ويساهم في تحريرنا من الوهم الأيديولوجي من خلال تجربة مألوفة يعمل عليها الفنان محولاً إياها إلى مادة مختلفة شكلاً وبنيةً.

وتعد الرواية أكثر الأجناس الأدبية قدرةً على إبراز النزعة الأيديولوجية التي فيها للكلام تسلط حتى لا مسافة فيه بين الشخصية ومتلقي أقوالها. وقد أدت روايات كثيرة أدواراً مهمة في الدعاية لأيديولوجيات مختلفة وترويجها والعمل على تعميقها، سواء أ كانت هذه الروايات أحادية الصوت تبث ايديولوجيا واحدة أم كانت متعددة الأصوات تبث عدة أيديولوجيات. ويظل نجاح الرواية في أداء وظيفتها الأيديولوجية متوقفاً على مهارة كاتبها في انتقاء الشكل الذي يتناسب مع المحتوى الأيديولوجي تناسباً جمالياً يجذب القراء ويدفعهم نحو التأثر والتفاعل. وعادة ما تكون الرواية أحادية الصوت مقتصرة في البث الأيديولوجي على ما يقوم به السارد المركزي من دور في رؤية العالم تصورياً.

وقد تكون صورة المؤلف ـــ حين لا يترك سارده مستقلاً فيتدخل في عمله ويقتحم ميدانه ـــ مقترنة بصورة هذا السارد ومتطابقة في التعبير عن موقفه من العالم ومعرِّفة بانتمائه الأيديولوجي في حين تتسع مساحة الرواية متعددة الأصوات ليكون لكل صوت سردي وجهة نظر مختلفة، وكلما تعدد الساردون تعددت وجهات النظر الأيديولوجية، وبهذا ينجو المؤلف من التطابق مع السارد ويتحرر من ربقة التحيز الأيديولوجي.

ولا يعني هذا أن الرواية أحادية الصوت أفضل من الرواية متعددة الأصوات، وإنما هي المعالجة الفنية التي فيها يضرب مؤلف الرواية متعددة الأصوات أمرين بحجر واحد، فهو من جانب يبرأ بنفسه عن أن يكون كاتباً مؤدلجاً وفي الوقت نفسه يُشرِك القارئ في مهمة الفرز لهذه التعددية الأيديولوجية المبثوثة داخل الرواية، لينتقي القارئ واحدة منها يرى نفسه فيها، وربما يكون منتمياً إليها أو لعله يباركها ويناصرها أكثر من غيرها.

وما تعدد الايديولوجيا في الرواية متعددة الأصوات سوى تنوع وجهات نظر الساردين بتنوع الأدوار الموضوعية المسندة إليهم وطبيعة علاقتهم بالشخصيات الثانوية. ولا يؤدي هذا التعدد إلى تضارب في وجهات النظر، بل هو يساهم في تعميق المحتوى الأيديولوجي عبر اصطناع صراع سردي يحاكي ما يجري على أرض الواقع المعيش من احتراب فكري أو تصارع حزبي أو انحياز طائفي تزاوله جماعات وأطراف وقوى متصارعة.

ولطالما مارست الروايات أحادية الصوت دورها في التأثير فكانت وسيلة إعلام قوية في احتكار ايديولوجيا معينة تدعو إليها فارضة إياها على القارئ. وما كان لدوستويفسكي أن يبتكر التعدد في الأصوات السردية إلا تعبيرا عن الحاجة إلى صنع وعي قرائي ذاتي يتضاد مع كل اعتقاد إلزامي أحادي.

وقد أخذت الرواية العربية متعددة الأصوات منذ مطلع القرن الحادي والعشرين توظف هذه التقانة توظيفا جديدا يختلف عما عهدناه في مثيلاتها في القرن العشرين التي كانت ترجو من خلال التعدد في بث ايديولوجيات تحقيق أغراض متنوعة بعضها يصب في باب التحريض على الثورة والنضال من اجل الاستقلال والعدالة وبعضها الآخر يصب في باب الاستكانة والتسليم إذعانا وتطبيعا.

وعلى الرغم من ذلك فإن الروايات متعددة الأصوات في وقتنا الراهن تبدو متراجعة عددياً أمام الروايات أحادية الصوت في التعبير عن عالمنا وما يعج به من تصارع فكري وتنازع آيديولوجي. هذا التصارع الذي يخيف المجتمعات الديمقراطية إذا ما كان للمرء أن يتقبل فكرة أن الدعاية ليست إلا عملية إقناع ـ كما يقول فيليب تايلور، فكيف الحال إذن مع مجتمعاتنا العربية؟! أ ليس ما تمر به هذه المجتمعات من تأزمات بسبب نشاط عمل التحزبات والاستقطابات والانحيازات يقتضي من الرواية متعددة الأصوات أن تؤدي مهمتهما في جعل القارئ في الصورة متفاعلا بالمشاركة أو بالمعارضة للرؤى والتصورات؟ أم أن القارئ العربي لم يصل بعد إلى المرحلة التي فيها يكون وعيه منتجا ومتخلصا من دوره الاجتراري الذي داوم عليه عقودا طويلة، كي ينظر إلى الدعاية الأيديولوجية على أنها ليست فرضا أو إلزاما بل هي تمرين عقلي في التفكير، نتيجته أما الاقتناع أو عدمه؟!

إنَّ الأمر بالتأكيد متوقف على مهارة الروائي في الإفادة من تقانة تعدد الأصوات السردية في اصطناع صراع فكري متكافئ ولكن فيه فراغات وثغرات يتركها لقارئ روايته كي يتفاعل معها مشاركا في عملية الاصطناع تلك؛ بإنتاجية قرائية واعية فلا تخلب لب هذا القارئ ايديولوجية واحدة بعينها فيقع مأسورا بسحرها مشدودا إليها بلا أدنى فاعلية في التفكير والاقتناع.

ولا تعبّر عملية الاقتناع بايديولوجيا ما عن وسطية القارئ أو اعتداله العقلاني دوما، فربما تعبر عن رفضه الصارم لكل ما هو متطرف لا يحتكم الى العقل أو ينافي الطبيعة الانسانية، وكذلك مقته لكل من يروج للاستقطاب المدجن والتنظيم المسيس والمحشد بالتغرير والترغيب عبر ممارسة أفعال مشينة. مما يتطلب من كتًاب الرواية اليوم مزيداً من أعلاء دور القارئ وجعله أكثر تأملاً وتفكيراً في ما يبث من ايديولوجيات، واضعين ثقتهم بقدرة هذا القارئ على الاقتناع الذاتي بواحدة منها من دون قسر أو إجبار.

والتحدي الذي يواجهه كتّاب الرواية متعددة الاصوات لا يقف عند حدود الاقتناع أو التضاد بل هو مقرون أيضا بالكيفية التي بها تعمل التعددية الصوتية على حض القارئ على التفاعل والمشاركة مع الابطال الساردين جنبا إلى جانب فاعلية الدور الذي ينبغي ان تؤديه الشخصيات من وحوارات ومونولوجات وما تقدمه الأمكنة والأزمنة من دلالات للمسرود له الموجه إليه الخطاب ثم القارئ الذي يتابع نسج هذه البنى وما ينجم عن نسجها من صراع في الرؤى، مؤيدا لها أو متحفظا على بعضها أو رافضا كلها.

ولا فرق إن كانت وجهة النظر مباشرة وصريحة أو كانت متدارية وغير مباشرة؛ إذ في الحالتين تؤدي الرواية مهمتها في إثارة الصراع المحتدم بين كل الرؤى المتعددة للسراد.

ولأجل أن يكون التلاقي بين الشكل الفني والمحتوى الأيديولوجي معبراً عن التنوع الكلامي والتباين الفردي والانسجام بين وحدات التأليف السردية وما فيها من تنوع في العلاقات والصلات، يغدو اصطناع تكرار سرد أحداث بعينها على لسان بعض الساردين مهما في تقريب وجهة النظر، وبالشكل الذي يجعل الشخوص والأشياء تشابه نفسها مشابهة الوجه لنفسه في المرآة.

وهذا هو ما يطلق عليه (الهولوغرام) أي مقابلة كل صوت سردي مع الآخر تقابلا يخترق الواحد الآخر كحدس يومي واضح ومحدد تماما كما يفعل التلفزيون حين يحوّل الإنسان إلى شخصية ليزرية فتكون الأحداث مثل شريط فلمي يتم بثه فلا يبدو شيء يفصلنا عن الأصوات الساردة. وبالطبع يتولد عن هذا التكرار في الأحداث والاختلاف في مستويات الوعي وجهات نظر أيديولوجية مختلفة ومتضادة تحفز القارئ على التأمل وتستفزه نحو التفكير مليا في: 1) الطريقة التي بها تتكرر هذه الأحداث ثم تتقاطع في لحظة زمنية معينة، محاكية الواقع محاكاة متضادة تقبض على الواقع الحي. و2) التباين بين السُّراد في النظر لأنفسهم ومجتمعهم وهوياتهم ومستقبلهم وعلاقاتهم مع الآخرين وكيف تعمل الشخصيات المساندة والمشاركة على منح بعض السُّراد هيمنة فكرية. و3) التأمل في الكيفية التي يتناوب فيها الماضي الحي مع الماضي البعيد في النظر إلى المستقبل. وبهذا التحفيز القرائي يغدو للقارئ دور إنتاجي يؤهله أن يتبنى وجهة نظر ايديولوجية معينة من بين وجهات نظر متعددة.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

هاتف الجنابي: لا أميل إلى النصوص الطلسمية والمنمقة المصطنعة الفارغة

جنون الحب في هوليوود مارلين مونرو وآرثر ميلر أسرار الحب والصراع

كوجيتو مساءلة الطغاة

علم القصة: الذكاء السردي

موسيقى الاحد: 14 رسالة عن الموسيقى العربية

مقالات ذات صلة

تصورات مغلوطة في علم السرد غير الطبيعي
عام

تصورات مغلوطة في علم السرد غير الطبيعي

د. نادية هناويإنَّ الإبداع أمر عام لا يختص بأدب دون أدب ولا يكون لأمة بعينها دون غيرها كما لا يؤثر فيه تفوق مادي أو تقدم حضاري، بل الآداب تأخذ وتعطي ولا يهم إن كان...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram