ستار كاووش
لم أكن قد بدأتُ الدراسة في أكاديمية الفنون، حين تعرفت على صديقي عبد الرحمن رسن، الذي سبقني للدراسة في ذات الأكاديمية، حدثَ لقاؤنا الأول بالمصادفة عن طريق الصديق وحيد أبو الجول في مقهى هادي التي تقع في طرف المنطقة التي كنا نعيش فيها.
هناك سألته إن كان بوسعي زيارته في البيت لأرى لوحاته، وقتها لم يبدِ حماساً للأمر، لكنه دعاني كنوع من المجاملة. قبلَ ذلك كنتٌ قد تعرفتُ على بعض الرسامين في المدرسة، لكني شعرتُ إن مواهبهم كانت أبسط مما أفكر به وأريده من الرسم. لذا كنتُ أبحث عن صديق لديه رؤية شخصية وموهبة مختلفة. في ذلك اللقاء الأول مع صديقي، أتذكر كيف دخلتُ غرفته الصغيرة المليئة باللوحات. ولازالت ماثلة أمامي تلك اللحظة التي ذهبَ فيها لجلب أقداح الشاي، فيما أنا أتنقل بين اللوحات، ثم أقف أمام لوحة متوسطة الحجم، كانت تُعلق وسط الغرفة، حتى سمعته يقول لي وهو يمسك أقداح الشاي (هذه اللوحة إسمها الأصدقاء) وفيها رسم نفسه مع صديقيه محمد جبار وطالب صبحي، كانت لوحة تعبيرية فيها تحريف للأشكال حيث يختبيء الثلاثة تحت مظلة. وقتها كانت لدي إهتمامات فنية متقاربة معه بعض الشيء من خلال الكتب الفنية التي أحصل عليها من هنا وهناك، لذا إستهواني ما يقوم به صديقي الجديد. وحين بدأتُ دراستي في الأكاديمية، كان عبد الرحمن رسن واحداً من أفضل الرسامين فيها، بل ربما لا أبالغ إن قلت بأنه كان أفضل طالب يدرس الفن، شاب يتمتع بموهبة وحساسية عالية وشغف بالحداثة والأشكال التي تعبر عن دواخل الانسان. كانت معالجاته فيها مرونة وهو يجرب ويتنقل بين مناخات فرانسيس بيكون وزخرفة غوغان، وقتها كنتُ معجباً بتقنية فنسنت فان خوخ، وكنا في غرفته نتحدث عن الرسم حين إلتفت نحوي بطريقته الهادئة قائلاً (رغم الحساسية العالية التي يتمتع بها فنسنت في اللون، لكن غوغان شيء مختلف انه باهر في معاجاته اللونية ولديه حساسية من نوع خاص) في تلك اللحظة شعرتُ كم أنا بحاجة الى صديق مثله، يتحدث عن الرسم بهذه الطريقة، كنت أريد رساماً مثلي يعرف هؤلاء الأبطال الذين ذهبوا وتركوا لنا هذه الكنوز التي مازلنا نتعلم منها. وهكذا توطدت علاقتي أكثر بصديقي عبد الرحمن رسن أثناء وبعد دخولي الأكاديمية، وبدأت مشاركاتنا الصغيرة في المعارض هنا وهناك، وأهمها المشاركة في معرض الشباب الذي أقيم سنة ١٩٨٥ في متحف كولبنكيان، ثم مهرجانات الواسطي ومعارض الفن الأخرى، حيث أخذ عبد الرحمن يقترب أكثر من تأثيرات فرانسيس بيكون، بينما ركبتُ أنا القطار الذاهب للتعبيريين الألمان. ومن خلال الصداقة التي جمعتنا، تعرفتُ على محمد جبار وطالب صبحي وجبار عبد الرضا، وهؤلاء كانوا برأيي الأفضل بين طلبة الأكاديمية في سنوات الثمانينيات من ناحية أعمالهم وشخصياتهم التي تذكرني بالفنانين البوهيميين في مدرسة باريس. وهكذا جَمَعَتْ أكاديمية فنون بغداد في تلك السنوات مواهب من الصعب أن تتكرر مرة أخرى، وقد إنسجمتُ معهم بسهولة وكنا نبحثُ عن ما يطور مواهبنا ويمنحنا مساحات جديدة عن طريق الإهتمام بالثقافة الشخصية أو إكتشاف تقنيات ومعالجات مبتكرة.
تجددت اللقاءات والزيارات بيني وبين عبد الرحمن وسط حوارات حول التقنيات وتحريف الأشكال وعدم محاكاة الطبيعة، تأثرنا ببعضنا هنا وهناك وتعلمنا إن الفن يسع الجميع ويحمل الكثير من الأبواب المفتوحة التي يمكنها ان تؤدي بنا الى طرق مختلفة لكنها مناسبة للوصول الى الأهداف. تواصلت الصداقة بين لقاءات وإنقطاعات، معرض هنا ومشاركة هناك، ليشق كل واحد طريقه بما يتناسب وظروفه وأهدافه الشخصية، وقد سافرت من العراق قبل ٢٨ سنة وعرضت لوحاتي في الكثير من الغاليريهات والمتاحف لكن تلك الصداقة بقيت نقطة مضيئة في حياتي. ومن خلال سهولة التواصل بين الناس في السنوات الأخيرة، عاد التواصل مع صديقي القديم، وتجددت التقاربات، وعادت بعض التفاصيل، شيء يفرحكَ ويسعدكَ أن تجد صديق من هذا النوع بعد إنقطاع طويل، فالصداقات الحقيقية لا تصدأ كما يقول الهولنديون. والأمر الذي أسعدني حقاً، هو إقامة صديقي عبد الرحمن معرضاً شخصياً جديداً في بغداد بعد توقف وإنقطاعات بسبب ظروف البلد، وقد تابعت تفاصيل المعرض على الميديا والانترنيت، هذا المعرض الجميل هو المناسبة التي أردتها لكتابة هذه الكلمات لصديق عرفتهُ وعرفتُ شغفه بالفن وتلك الروح التي يملكها، وسعدتُ حقاً حين رأيته يحرك جناحيه من جديد، محلقاً في فضاء الفن. تحية لصديقي عبد الرحمن رسن الذي كان أول فنان حقيقي تعرفتُ عليه وشاركني خطوات وتفاصيل جميلة ورائعة، هذا المبدع الذي كان صديقي… وسيبقى بالتأكيد.