TOP

جريدة المدى > عام > خُرج الصياد.. المفكر شاعر مرويات الأنا

خُرج الصياد.. المفكر شاعر مرويات الأنا

نشر في: 9 إبريل, 2022: 11:35 م

ناجح المعموري

يعرف الكثير موقفي الثقافي والنقدي عن الناقد ياسين النصير. موقف متحمس، لأنه غير مزاحم من قبل واحد آخر، هو المثقف الذي ترصن فلسفياً، والتعاطي مع الفلسفة بعيداً عن اللغة،

والتعامل معها بوصفها بيتاً للوجود، هذه مقولة مشهورة لهايدجر، وتابعت كل المثقفين العرب المهتمين بالفلسفة وكان لها تأثير على لغتهم. واتضح لي هذا عبر متابعة الأستاذ ياسين النصير، المتميز عن غيره ولا أحد يتجاور معه.

وهذا هو الرأي أخذه الى فضاء الشعر وحقق كثيراً من الانجازات النقدية الملاحقة بقوة وحماس لأهم التجارب الشعرية المعروفة في الوسط الثقافي وتمظهرت دراساته وكأنها محفورات جديدة، تقترب من لغة الشعر وتسمو في أحيان كثيرة، لأن الفلسفة التي تجعل العقل متسامياً وشفافاً، يبتكر مفردات الجملة، ويتعامل معها باعتبارها التقاطات لم تتوفر الإله وحده من جموع الأدباء والمثقفين. وهذا ما جعل من الناقد ياسين النصير تجربة فريدة في الثقافة العراقية، وينظر اليه الآخر بشيء من الاندهاش والاستغراب. وعندما يكتب ياسين النصير عن الشعر يتبدّى وكأنه يبدع في الشعر أيضاً. وهذه ظاهرة غير معروفة من قبل. ولعل أهم ملاحظة أشرت لها قبل ايام في مقاربة عن تجربة شعرية ذكرت فيها خصائص ياسين النصير النقدية المتجوهرة بالفلسفة التي منحت مرويات ياسين شعرية متعالية وكأنه يذهب نحو فضاء كله شعر. وما لاحظته في كتابله الجديد “ خُرج الصياد “ ما منحني تكريس ممنوحاتي لمثقف بارز وعقل معرفي. وتوصلت تجربتي الثقافية في الوسط الأدبي أن متعاطي النقد أو الشفاهية، كلما كان الجزء المتحدث عنه، تلوح له الفلسفة وتكرسه، تعطيه حضوراً قوياً، وهذا يوفر لمن يتحدث أو يكتب أن يلوذ بالشعرية لأن الفلسفة تناولت جزئية الجسد، ونظام الخصوبة، والحب ستتمظهر اللغة مرتعشة من شعريتها، وهكذا تظل بما هو مألوف في المكتوب اليومي، وكأنه لغة صحفية. لذا أنا أعتقد بأن الفلسفة تهذب اللغة وتصوغ معجماً خاصاً، من هنا لا نستغرب لأن الأسماء الفلسفية البارزة تكتب شعراً ولم يتوفر هذا فأن لغة رولان بارت على سبيل المثال شفافة وذات حساسية محفزة للمتلقي.

“ خُرج الصياد “ منجز سردي، سيري، وهو أمر غير شائع على الرغم من أن الباحث والمفكر ياسين النصير، قدم سرديات رفيعة المستوى عندما كتب عن شارع الرشيد أو عن المقهى. هكذا لابد من ايضاح يستكمل ملاحظاتي عن تجربة نقدية مثيرة في المنجز الذي يقوده ياسين للدخول في فضاء التشكيل، دائماً ما تكون لغته ملونة تلتقط ألوان المنجز الفني ويكتب له.

“ خُرج الصياد “ بكل تفاصيله الطويلة والقصيرة ممتلكة طاقة تحفيز للتلقي وقوة تشابك توحد أجزاء السيرة، وتنظمها وكأنها مجموعة من الوحدات السيرية، التي أضاعت تاريخاً حيوياً من شخصية ياسين النصير بمرحلة من مراحل حياته، والسيرة ليست عيشاً في جغرافية دون زمن فاعل، هي قارة وجدت في كل الأمكنة والأزمنة، وعليّ أن أعيش فيها من خلال غيرها وإن أجعلها حية في مدن وبلدان أخرى. هذه السيرة هي كتابة بالفعل لتلك الحياة المتشظية التي لم أقتنع بأنها ستؤلف كتاباً أو مدونة. ما ينقصها هو أني ما زلت حياً لأكتب، أما اكتمالها فهو فقدانها ثانية في فضاءات القراءات التي ستكون اضافات نوعية عليها، رحلتي السندبادية منزوعة الاشرعة لسفينة منخورة مسافرة لمرفأ لا تعيين له وما اذعاني بأني مسافر أو سافرت ليست الا اكاذيب عشتها فكتبت نفسها لتكون صادقة واختفت غيرها ربما هي الأكثر صدقاً، رحلة دوران حول الذات والأمكنة.//ص9

العقل الذي استعاد محكيات تاريخ طويل، وممتد عقل معرفة وتنوعات التقطت اهم ما يثير انتباه الذاكرة المعبئة لخزانها المعني بياسين. فهو عارف بان استحضارات معيوشات تدوّن ثانية مكتوبة وفي هذه المحاولة، الجديدة التي يزاولها ياسين، يضفي على استدعاءات الذاكرة حضوراً جديدة ويعطيها حياة ثانية. ما لاستذكار احياء والتدوين تجديد. لأن العلامة التي يبتكرها المتلقي تعزز طاقة المحكيات. وذهب ياسين النصير بما هو مكتف بالإيجاز، عندما قال بانه لحظة ما يكتب يوفر لحياته التي كانت مدورات لا تتعطل الان، الانا تفيض على الفضاء والجغرافية. وفيما قاله ياسين النصير عن السيرة، وعلامة الكائن مع صحوة الذاكرة ويقظة حركتها لإضفاء ملمح الكائنية التي اكدت على انطولوجيا الذات الهجيلية. وواضح بأن سيرة ياسين استدعاءات واستحضارات فلسفية لا يؤشرها صراحة، لكنها تؤشر على معرفيات واحياناً يقولها بشكل مواجه مثل الصيانية والتدميرية وانا لدي تحفظ عليها، لكن احترم قناعات ياسين، مثله مثل كل المشتغلين بالثقافة والمعرفة، لان هذا التكرر يعطي لما يقوله نوعاً من التراكم حتى تتكرس يعطي لما يقوله نوعاً من التراكم حتى تتكرس من اجل ان تتحول بؤرة جوهرية. والمثير في مرويات هذه السيرة سعيها الى لملمة النحت حول الذات كنوع من مسعى التجاذب بين الواحد والافراد وفي هذا حلم ياسين. بتقديم معرفته القادرة على احياء افكار ماركس عبر دقائق السرد.

البحث عن الانثى في خُرج الصياد سهل، لأن الجسد المستعاد لهبته ساخنة، لاذعة، تستجيب للاستحضار، فالعشق اخذته الفلسفة وطوفته بالشعر والجمال والجنون، وجعلته انموذج التجوهر العظيم في الحياة وارتضى البطرياركي الاستسلام له واللوذ بارتعاشاته. هذا الرضا لا يستحضره غير الشعر الممنوح لنا عبر الفلسفة ويتحول لحظتها ياسين النصير شاعراً من طراز يقود الحنين للجنون والانذهال بالأنثى، ويفقد سيطرته مكتفياً منها بملامسة عجولة والممكن ممكن، فتدفق ماء القلب. قبل الدبيب نحو جحيم مختف، ويهب مشتعلاً تلاحق السيرة بالارتعاش الموهوب من الاخر / ذوبان الانثى لان الصيف مبتهج على السواحل، الصيف مضحك على السواحل، الصيف يعري الفصول كلها، الصيف لا يجمع الغلت ولا يقول ما لا يعرفه، هؤلاء الذين نراهم بلا ملابس الا من ورقة توت، مضحكون ما اشد قسوتهم عندما يرتدون الثياب، تعلمين يا دالي ان الثياب شتاء معوضة عن اللحاف، الشتاء يستر عرى الموحد ومحن في الصيف الضحك، ومثل البيت الذي قفل ومفتاح ونحن في الصيف العراء، ومثل الغرف، غرف السجناء وغرف العزل في المستشفيات وغرف محطات الانتظار في المحطات النائية، وغرف الفنادق التي نتسلل اليها في اخر الليل.

التقط في هذه اليومية ما نقوى على التقاطه ولملمته الفلسفة، لان حضور باتاي ممتلئ وعاصف، عنيف ومدمر، لأنه متشارك مع ياسين النصير بقبول متحمس للعري الذي يهب الجنون والعقل. العري يخطف الجمال كله ويعطيه لمن هو جائع، والقبول ارتعاش تفلسفه خزانات العقل “ فالإقرار بالجمال وسط نظام القبح، لا يفسد الرعشة بل يمنحها ضجة يجب الاعلان عنها والاعتراف بها، كما قال باتاي. أخيراً وجدت في “ خرُج الصياد “ نوعاً من لعب الفلسفة لدى ياسين، فلسفة الجسد للدفاع عن خطاب الجسد، وهو خطاب اللعب. سحر الجسد، عنف الغواية.

الذوبان بالأنثى في يوميات الصياد، اعتراف بالانفعال الشهوي والرضا بالتكريس وسط لذائذ لا تريد الفياض. لان الكائن العاشق يريد التعلم ومعرفة المزيد عن العالم الذي هو نسيج التخييل المعطى من الواقع، كما قالته الفلسفة الجمالية لادغار موران.

يوميات الصياد نوع من التعرف والاعلان عن التعرف والقبول بالتعرف حتى الابد. تعرف على داخل الكائن والتقاط الذات والتعايش مع انطولوجيا ابدية، يفضي الصياد عبر يوميات الانثى نحو مسلك التفكير والوصول للعالم البشري الخارجي.

قذف ماء القلب، نوع من غشيان التحقق اللاواعي، التقاط النشوة منح للغياب، المطلوب، الفقدان والتوهان والبحث والرضا بدوران تجددات الغياب، التي سببها خرج الصياد المزدحم بالتماعات اللحظات الغائبة المتراجعة، لكن للذاكرة صحوة مدهشة، تستعيدها كما يحصل مع الصياد الذي لا يتراجع عن السعادة والعطاء الممنوح من الانثى والرجل، مملكة تعطي للآخر وتمجده، مبجلة فيه “ الفعل الايروسي الذي ينتمي الى التدمير في لحظة اللعب “ كما قال باتاي مؤكداً على ان الايروسية اقرار الحياة حتى داخل الموت.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

هاتف الجنابي: لا أميل إلى النصوص الطلسمية والمنمقة المصطنعة الفارغة

جنون الحب في هوليوود مارلين مونرو وآرثر ميلر أسرار الحب والصراع

كوجيتو مساءلة الطغاة

علم القصة: الذكاء السردي

موسيقى الاحد: 14 رسالة عن الموسيقى العربية

مقالات ذات صلة

تصورات مغلوطة في علم السرد غير الطبيعي
عام

تصورات مغلوطة في علم السرد غير الطبيعي

د. نادية هناويإنَّ الإبداع أمر عام لا يختص بأدب دون أدب ولا يكون لأمة بعينها دون غيرها كما لا يؤثر فيه تفوق مادي أو تقدم حضاري، بل الآداب تأخذ وتعطي ولا يهم إن كان...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram