لطفية الدليمي
كان خبراً مثيراً عندما قرأتُ أنّ نسخة مترجمة إلى العربية من كتاب (العقلانية) لعالم النفس الإدراكي الأمريكي (ستيفن بنكر) قد صدرت حديثا عن دار نشر عراقية. أسباب كثيرة تدعو لهذه الإثارة، منها أنّ بنكر كاتبٌ عالمي متعدّد الاهتمامات، وأنه زوج الفيلسوفة والروائية ريبيكا غولدشتاين التي أكنُّ لكتاباتها إعجابا خاصا.
كثيراً ماتساءلت : ماهي حدود العقلانية المفترضة في سلوكنا؟ سيكون من قبيل السخف أن نتصوّر إمكانية أن نبقى عقلانيين مثاليين في كلّ الظروف والأوقات. العقلاني الكامل Complete Rationalist ليس مثالاً نتطلّعُ إليه؛ إذ سيكون أقرب إلى روبوت يعملُ تبعاً لخوارزميات صارمة تفتقدُ حرارة اللحظة الوجودية الفارقة. كلٌّ مانتطلّعُ إليه، وأفضلُ مانستطيعُ تحقيقه، هو جرعةٌ من العقلانية التي ترتقي بالحياة البشرية الفردية والجمعية ولاتبعثرها في خضمّ السفاهة المبتذلة والمصالح الشخصية المقنّعة والأوهام القومية المتضخّمة.
قرأتُ قبل بضعة أيام، وعلى الموقع الألكتروني لستيفن بنكر، مقالة له نشرها في صحيفة بوستن غلوب بتأريخ 2 آذار 2022، إختار لها عنوان (هل حربُ روسيا على أوكرانيا نهايةُ سلمٍ طويل ؟). قرأتها مرة واثنتين وثلاثاً، على مهل بعون من فناجين قهوة عديدة، ورحتُ أتفكّرُ في سؤالي السابق : كم يمكنُ للبشر أن يكونوا عقلانيين في بيئة معقّدة محكومة بعناصر ضاغطة قد تكون مفاعيلها حاضرة في الوعي أو قد تعملُ في منطقة اللاوعي؟ هل يمكنُ أن نكون مثاليين ونفكّ عناصر الاشتباك المعقّدة بين مصالحنا الشخصية – وبالتبعية مصالح المؤسسات التي نعملُ فيها – وبين الرؤية التي نفترضُ فيها عقلانية كاملة؟
مقالة بنكر سابقة الذكر مكتوبةٌ بلغة جذابة وناعمة، سيشهدُ فيها القارئ حشداً من مفردات عصر التنوير الانساني والعقلنة التي سمحت بنموّ وتعاظم إمكانات التطور الاقتصادي في مناطق كثيرة في عالمنا. مفرداتٌ وعبارات كُتِبت بعنايةِ وحذقِ مَنْ تمرّس في حرفته وجوّد كثيراً في عرض أفكاره. ثمّ، وعلى غير انتظار أو تمهيد، تنقلبُ اللغة المنسابة الناعمة رشقاتٍ بالمدفعية الثقيلة عندما يردُ ذكر روسيا وبوتين، ولن ينسى بنكر تذكيرنا بأنّ بوتين يمثلُ رمزاً من رموز الرومانسية القومية التي تتطلّعُ إلى إحياء ذكر البطل القومي المدعوم بأسطورة دينية مستمدّة من الأرث المسيحي الأرثوذكسي.
من لوازم العقلانية ردٌّ النتائج إلى مسبباتها الأولية بطريقة مباشرة ومن غير تسويف احتيالي أو تسويغ مخاتل أو تلاعب قصدي. لو أتيح لي مناقشة بنكر في موضوع مقالته المطوّلة فسأسأله سؤالاً واحداً : ماالذي يدفعُ بوتين إلى شنّ حرب مكلفة على صعيد الأرواح والمال في أوكرانيا وهو الذي كانت تدخلُ خزائنه يومياً أكداسٌ مكدّسة من مئات ملايين الدولارات عن مبيعات النفط والغاز إلى أوربا؟ كان بوتين سيد الطاقة في أوربا بحكم واقع الحال؛ فلماذا يلجأ إلى الحرب ؟ لابدّ أنّ سبباً لايمكنُ دفعه هو ماألجأ بوتين إلى الحرب متحمّلاً كافة الخسائر المحتملة. ليست الحرب نزهة يذهب إليها القادة في نهاية المطاف حتى لو كانوا مجانين سلطةٍ ومال.
أظنُّ أنّ الجواب على هذا السؤال سيكون كافياً لبيان أسباب الحرب الحقيقية، ولن نكون بحاجة بعدها إلى اللجوء لأطروحات طويلة تبدأ بعرض جوانب من عقلانية الغرب ولاتنتهي بشيطنة بوتين ونعته بأسوأ الأوصاف الخارجة على كلّ اعتبارات اللياقة.
بقيت مسألة واحدة : قد نختلف مع بنكر في أطروحته، وقد نراها غير معقلنة، وقد نشكّك في نواياه باعتباره عضواً في مؤسسة تعليمية نخبوية هي جامعة هارفرد التي تمثلُ إحدى قلاع الأكاديمية الأمريكية، وقد تكون له مصالح محدّدة لايريد لها أن تتقاطع مع توجهات السياسة الأمريكية المضمرة والمعلنة؛ لكن لايمكنُ نكران أنه عرض أطروحته بطريقة مهذّبة ومقبولة. أظنّ أنّ الأمر سيحتاجُ منّا طاقة فكرية كبرى إذا مابحثنا في الأسباب التي تجعلُ فيلسوفاً يدّعي الراديكالية اليسارية مثل (سلافوي جيجك) يرى في حرب بوتين على أوكرانيا إغتصاباً للأخيرة، ويدعو العالم الغربي الحر إلى إخصاء بوتين إخصاءً كاملاً لاتقوم له بعده قائمة !!