طالب عبد العزيز
وقف الرجل الشيخ على نهر، في قبيل من نخله، مستندا الى عكازه العوسج، ينصح ابنه، الذي تمكن من صعود النخل منذ عامين، قائلاً: هذا موسم إفحال (تلقيح) النخل يابني، فعليك بالفحل الغنّاميِّ الصُّواح، المُؤبِّر، كثير الطحين، الذي تشمُّ رائحة دقيقه، مثلما تشمُّ رائحة المني في ثوبك بعد إحتلامك في ليلة مقمرة، قبل غسلك. فقد خلق الله نخلتنا من فضلة طينة آدم. وكان أهلنا في البصرة يسمّون التلقيح بالتأبير، ولا أعرف لماذا اندرست المفردة الجميلة هذه.
هم يصحّفون وينحتون مفرداتهم كما يحلو لهم، فالوضوح عندهم يتجاوز المعنى والمعرفة والفهم العقلي الى أحوال النخل، وتقلب المواسم فيه، فتراهم يقولون: أوضحَ النخلُ إذا أصفرَّ واحمرَّ، إي إذا تعاقبت عليه ألوانُ النُّضج والطعوم. خذ هذا مثلاً:
«يا هلْ أريكَ حمولَ الحيِّ غاديةً كالنَّخل زيّنها ينَعٌ وإفضاحُ
لكنهم مازالوا يتذاكرون في المجالس ما قاله صاحبهم التميمي، خالد بن صفوان يوم استقدمه عبد الملك بن مروان واصفاً ووصّافاً للبصرة حيث قال يصف النخلة:” فمن النخل في مَباركه، كالزيتون عندكم في منابته، هذا على أفنانه، كذاك على أغصانه، هذا في زمانه، كذاك في إبانه، من الراسخاتِ في الوحل، المُطعِماتِ في المحل، المُلقّحاتِ بالفحل، يخرجن أسفاطا عظاما، وأقساطا ضخاما، ثم ينفلقن عن قضبان الفضة، منظومة باللؤلؤ الأبيض، ثم تتبدل قضبان الذهب، منظومة بالزبرجد الأخضر، ثم تصير ياقوتا أحمرَ وأصفرَ، ثم تصيرُ عسلا في شنّة من سحاء، ليست بقربة ولا إناء، حولها المذاب، ودونها الجراب، لا يقربُها الذباب، مرفوعة عن التراب، ثم تصير ذهبا في كيسة الرجال، يستعان به على العيال.. وختم:
كأن النخيلَ الباسقاتِ وقد بدت... لناظرها حسناً قبابُ زبرجد
وقد علقت من قُلبها زينةً لها... قناديلُ ياقوتٍ بأمراس عسجد
وفيما أحدّثك عنه يا ولدي: كان لدينا نخلٌ اسمه المُشان، ويسمّيه بعضُهم المِشان بـ(كسر الميم) وأخرون يقولون موشان، هذه المفردة، التي يعيبها علينا بنو جلدتنا من ساكني أعالي البصرة، بأننا أهلَ الحضر، أهلَ النخل، إنما نقول “مشان” أو “مشانيش” بتصحيف قولنا: (من أيِّ شأنْ) حتى أنَّ الطواشات اللواتي كنَّ يعملن ببساتيننا من هناك يهزجن قائلات :” أمّنْ ومشانيش تلاكينه.. وبخلال بريم ترامينه “ أقول هي نخلة من نخيل البصرة تحبّها الجرذان، فتصعدها، فتأكل منها، ولذلك سميت أيضاً:” ام جرذان”، لما فيها من الرطب، أطيبه وأحلاه. وهاك خذ عنّي هذه : هناك نخل في البصرة يسمى بالغواني، وعليك أن تتصور المعنى قبل تذوقه، ففي اسمه ما يكفي من اللذة والحلاوة.. وإذا أردت أن أضحكك قليلاً، فقد قرأت عند ابي حاتم السجستاني بأنَّ نخلة هي من أردئ نخل الحجاز هناك تسمى(معيّ الفارة).
وحتى يوم قريب كنت اسمع من يسمّي العُرجون بالعسق، بقاف معجمة. حتى أنَّ ابي كان يسمّي ساعد الرجل، التي بين الكفِّ والعضُد بالعسكه، فيقول (عسكة ايده هل عرضها) ولعلهم أردادو للنخل القريب من الماء حياة أبقارهم وماشيتهم حين قالوا هنَّ الكارعات، المُكرعات، ترى كيف تكرع النخلة ماءها؟ يفعلون ذلك مثلما فعل الله بوصفه النساء القواعد، اللاتي انقطع الطمث عنهن، بسبب الكبر، فقد سمّوا النخل التي تثمر سنة وتحتجب اخرى بالقواعد من النخل. أطال الله في عمرك يا بني، خذني، وأجلسني على ذلك المِنْفّضْ. أتعلم ما هو؟ هو الوعاء، الذي يُنفضُ فيه التمر.