لطفية الدليمي
ليس يسيراً أن يكون المرء رجل دولة حقيقياً في عصرنا هذا ؛ بل لم يكن الامر يسيراً من قبل أيضا. تخيلْ مثلاً ونستون تشرشل وهو يضعُ رأسه على الوسادة ليلاً أيام الحرب العالمية الثانية:
ماالذي كان يحدّثُ نفسه قبل أن تغمض عيناه؟ وكيف كان النوم يأتيه وهو يعرفُ أنّ لندن وبضع مدنٍ بريطانية أخرى قد تُقصَفُ بعد قليل بصواريخ V2 الالمانية؟ هو يعرفُ أنّ كلّ قتيل من جراء تلك الصواريخ يشكّلُ عبئاً أخلاقياً ومجتمعياً على عاتقه حتى لو كان الأمر لايتعدّى الحدود الاعتبارية ؛ لكن طالما إختار تشرشل أن يكون رجل دولة فعليه أن يتحمّل وزر اختياره لكامل مداه.
من المؤكّد أن تكون مسؤولية رجل الدولة في عصرنا هذا، وبخاصة بعد شيوع الثورة الصناعية الرابعة، أكثر تعقيداً من نظيرتها أيام تشرشل والحرب العالمية الثانية ؛ بل وحتى أعقد من عقد السبعينيات والثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي. حلّت على عالمنا معضلات جديدة لم نشهد لها مثيلاً من قبلُ، والغريب أنّ معظم هذه المعضلات صارت تتجاوز نطاق الحدود المحلية للدولة الوطنية، وماعاد ممكناً مواجهتها إلا في سياق عولمي شامل متعدد الانساق والسياسات. لنذكر بعضاً من هذه المعضلات: فرط التسخين المناخي، الحروب السيبرانية، الازمات الاقتصادية الجديدة، معضلات الطاقة المتجددة والنظيفة، معضلات البيئة، معضلة المياه، القنبلة الديمغرافية. لايمكنُ أن ننسى بالطبع معضلة الذكاء الاصطناعي ذات الابعاد المتعددة والمعقّدة.
* * * * *
لم تزل الحيوية الفكرية التي يتمتّعُ بها هنري كيسنغر Henry Kissinger حتى وهو على أعتاب المائة عام (ولِد عام 1923) مصدراً للتفكّر والإعجاب. قد نختلف مع كيسنغر ورؤاه الدبلوماسية والجيوبوليتيكية، هذا أمرٌ مقبول وليس مصدر خلاف ؛ لكننا لن نختلف في قدراته الفكرية المميزة منذ أن كان طالباً في جامعة هارفرد التي تخرّج منها عام 1950، ثمّ منذ أن نشر أوّل كتبه « الأسلحة النووية والسياسة الخارجية Nuclear Weapons and Foreign Policy “ عام 1957. نحنُ في العادة نعرفُ وجهاً واحداً من أوجه كيسنغر – ذاك هو وجه السياسي والدبلوماسي البراغماتي الذي ساهم في تشكيل خريطة العالم – الشرق الأوسط بخاصة – في سبعينيات القرن العشرين ؛ لكننا نغفلُ عن أوجه أخرى له ومنها – مثلاً – وجه الفيلسوف السياسي الحاذق، ولو قرأنا كتابه الضخم المسمّى (الدبلوماسية) لتيقّنّا من مصداق هذا القول.
من الخطأ – بل وحتى الجهالة غير اللائقة – إعتبارُ كيسنغر رجل دولة أمريكياً أو على النمط السائد لرجالات الدولة والسياسة في العالم. كيسنغر رجلٌ باحثٌ ومفكّر وفيلسوف من طراز متقدّم، لايأبه كثيراً للمال ويعيشُ حياة متواضعة بالمقارنة مع غيره من السياسيين الامريكيين المتقاعدين، ويكفي في هذا الشأن أن نراجع ماقاله عنه خادمه الشخصي الذي ظلّ ملازماً له منذ سنوات بعيدة. يقول هذا الرجل أنّ كيسنغر رجلٌ هادئ، قارئ نهم، مدمنٌ على العمل إلى حدود غير معقولة قد تصيبُ سواه بانهيار عصبي قاتل، ينسى مواعيد أكله، وإذا أكل فيكتفي بالقليل من الطعام. يبدو رجلاً زاهداً في هذا العالم حتى لو لم يكن يقصدُ الزهد لذاته. يضيفُ خادمه أنّ كيسنغر يبدو معظم الأوقات وكأنه غير متواجد في البيت ؛ إذ لاشيء يدلُّ على وجوده، ويضيفُ بأنه كان يتعمّدُ كل بضع ساعات الإطلالة عليه وسؤاله إن كان يرغبُ في قدح ماء أو قهوة !!
من المثير حقاً أن يطرق رجلٌ يتوكّأ على عصا ويمشي متثاقلاً باب مبحث معرفي وتقني جديد هو الذكاء الإصطناعي ؛ لكنّ كيسنغر فعل هذا بالمشاركة مع إثنين من كبار الباحثين المرموقين في حقل الذكاء الإصطناعي: إريك شميت Eric Schmidt، رجل الأعمال ومهندس البرمجيات الذي ظلّ عموداً أساسياً في شركة غوغل في كلّ تحوّلاتها الهيكلية منذ عام 2001 حتى اليوم، والباحث الثاني هو دانييل هتنلوكر Daniel Huttenlocher عالِم الحاسوب الأمريكي الذي يعمل حالياً عميداً لكلية شوارزمان للحوسبة في معهد ماساتشوستس التقني الشهير MIT. الكتاب منشور حديثاً (يوم 2 نوفمبر « تشرين ثاني « 2021)، وحمل عنوان عالَمُ الذكاء الإصطناعي ومستقبلنا البشري The Age of AI and Our Human Future. ظلّ الكتاب منذ يوم نشره على قائمة الكتب الأكثر مبيعاً، ولعلّ أسماء مؤلفيه ساهمت في هذا الأمر ؛ إذ أحسبُ أنّ كثيرين لن يترددوا في شراء كتاب ممهور بختم هنري كيسنغر، وهذه فضيلة من فضائل مساهمة الشخصيات ذات الصيت العالمي في تناول الموضوعات ذات القيمة الستراتيجية والراهنية العالمية من حيث قدرتها العظمى على رسم معالم المستقبل البشري.
ينتمي الكتاب إلى حقل أدبيات الفكر العلمي وفلسفته بنفس القدر الذي ينتمي فيه إلى مبحث دراسات المستقبليات Future Studies، وقد تضافرت الحيوية الفكرية لكيسنغر مع القدرات العلمية والتقنية لزميليه في خلق كتاب متوسط الحجم (في حدود 250 صفحة) سلس القراءة يتناول واحدة من أخطر المعضلات التي تواجه الانسانية لو لم تتعامل معها في سياق من الحكمة المعقلنة.
يتوزّعُ الكتاب على مقدمة قصيرة وسبعة فصول. جاءت عناوين الفصول بالترتيب التالي: الإنطلاق من حيث نحنُ، كيف بلغنا مابلغناه اليوم: التقنية والفكر الانساني، مِنْ تورنغ حتى يومنا الحالي - ومابعده، منصّات الشبكات العالمية، الأمن والنظام العالمي، الذكاء الإصطناعي والهوية الانسانية، الذكاء الإصطناعي والمستقبل. تعقبُ هذه الفصولَ السبعةَ ملاحظاتٌ تفصيلية دقيقة أضاءت متن الكتاب.
أحسبُ أنّ عناوين الفصول تكشف عن التداخل بين الرؤى الفلسفية والمضامين التقنية لموضوعة الذكاء الإصطناعي، ثمّ الإجتهاد الذكي من جانب المؤلفين لربط الجانبين الفلسفي والتقني مع المعضلات الواقعية للعالم الذي نعيش فيه، مثل: معضلة الامن، والنظام العالمي، والطبيعة التواصلية اللحظية المشتبكة التي خلقتها الشبكات العالمية.... إلخ.
يحكي المؤلفون في مقدّمة الكتاب الظروف التي أحاطت بفكرة تأليف الكتاب، وهي ظروف أقربُ إلى الصُّدف النادرة. تخبرنا المقدّمة أنّ أحد المؤلفين (هو كيسنغر، حتى وإن لم يصرّحوا بذلك ؛ لكنّ القارئ يفهم هذا من السياق) كان مدعواً قبل خمس سنوات من نشر الكتاب لمؤتمر وضعَ الذكاء الإصطناعي على رأس قائمة موضوعاته. كان من الطبيعي والبديهي أن لايفكّر كيسنغر بحضور المؤتمر لأنّ الذكاء الإصطناعي أبعد مايكون عن اهتماماته حتى ذلك الحين ؛ لكنّ صدفة جميلة جعلت كيسنغر يلتقي بأحد الأشخاص (هو إريك شميت)، واستطاع شميت تغيير وجهة نظر كيسنغر بشأن الذكاء الإصطناعي. « الذكاء الإصطناعي سيؤثّرُ عمّا قريب في كلّ حقل من حقول النشاط الانساني «: هذا ماسمعه كيسنغر من شميت، وكان كفيلاً بتغيير قناعة الأول وجَعْلِهِ يحضر المؤتمر.
يَعِدُ الذكاء الإصطناعي بتحقيق تغيير شامل في الحياة الانسانية على كافة الاصعدة: المجتمع، الاقتصاد، السياسة، الأمن الوطني، الخريطة الجيوبوليتيكية ومصادر القوة الستراتيجية للدول،،، ومن المؤكّد أنّ التفكّر في كافة السيناريوهات المستقبلية الممكنة أمر يقعُ خارج نطاق قدرة أي فرد أو مبحث علمي أو تقني بمفرده ؛ بل أنّ دراسة هذه التغييرات الموعودة تتطلّب معرفة وخبرة قد تكون أبعد حتى من نطاق الخبرة البشرية السائدة ؛ لذا لابدّ أن تتعاضد خبرات مشتبكة من حقول العلم والتقنية والتأريخ والسياسة والإنسانيات في دراسة طبيعة الذكاء الاصطناعي والمعضلات التي يمكن أن تنشأ عنه.
سعى المؤلفون في هذا الكتاب لتمكين القارئ من تحصيل معرفة شاملة – وإن كانت عامّة وغير تفصيلية – بشأن الأسئلة المفصلية التي ستواجهها الإنسانية في السنوات القليلة المقبلة، وكذلك إلقاء الضوء على الوسائل والأساليب التي تمكّننا من معرفة كيفية الاستجابة المناسبة لها. أدناه بعض الأسئلة التي يتناولها الكتاب:
- كيف ستبدو الإبتكارات المحفّزة بالذكاء الاصطناعي في حقول الصحة والبيولوجيا والفضاء وتطبيقات ميكانيك الكم؟
- كيف سيكون شكل الحروب المدعمة بتقنيات الذكاء الاصطناعي؟
- هل سيكشف الذكاء الاصطناعي عن جوانب مخفية من الواقع ليس للكائن البشري سبيل لبلوغها في نطاق قدراتنا البشرية؟
- كيف سيتغيّر البشر عندما تبدأ الوسائل المدعمة بالذكاء الاصطناعي في التأثير على عملية صناعة القرار البشري؟
- ماذا يعني أن نكون بشراً Human في عصر تتزايد فيه قدرات الذكاء الاصطناعي حتى تبلغ تخوماً تتفوق فيها على الذكاء البشري (البيولوجي)؟
يعترف المؤلفون في نهاية تقديمهم للكتاب أنّ الأمر سيكون أقرب لغطرسة مكروهة فيما لو إدّعوا بقدرتهم على وصف ملامح حقبة مفصلية في تأريخ الإنسانية في نطاق كتاب واحد بمفرده، ويؤكّدون أنْ ليس في استطاعة فرد واحد - مهما تعاظمت قدراته المهنية والفكرية والفلسفية والرؤيوية – القدرة على تفهّم كلّ جوانب مستقبل قريب سيكون فيه باستطاعة الآلات تطبيق وسائل المنطق ومدّها إلى تخوم أبعد كثيراً من نطاق القدرات البشرية ؛ وعليه فلا مهرب أمام المجتمعات من التعاضد فيما بينها لابقصد الفهم المجرّد لتقنيات الذكاء الإصطناعي فحسب بل من أجل إعادة التكيّف الحتمي بكيفية لاتضحّي بالقيم البشرية النبيلة والرفيعة.
أملي كبيرٌ في أن يجد هذا الكتاب ترجمة عربية قريبة له ؛ فنحنُ في نهاية المطاف جزء من هذا العالم، ولابدّ لقارئنا العربي أن يجد إطلالة له على مستقبل سيكون فيه للذكاء الاصطناعي اليد الطولى في كلّ جوانب الحياة المادية والفكرية.