TOP

جريدة المدى > عام > حسب الشيخ جعفر… الذاكرة والتجربة

حسب الشيخ جعفر… الذاكرة والتجربة

نشر في: 12 إبريل, 2022: 11:30 م

علي حسن الفواز

“ وارتحلتُ في انزلاقة اليدين حتى العروة الأخيرة، اتكأتُ في الظل على انحناءة الشفاه، فرّ الشعر الثقيل كالنهرِ، ارتمى كالبجع التعبانِ، وانهمرتُ في همومه المنهمرة، في شهركِ الثامن مثل الثمرة “ .

قراءة تجربة حسب الشيخ جعفر، تعني قراءة مؤثراتها، فبقدر ما يحضر التاريخ القريب فيها، لاسيما الشاعر الرصافي الذي قرأه مبكرا، والشعراء الرعويين، فإنّ ملامح التجربة الحقيقية بدأت مع ظلال بدر شاكر السياب في غنائيته، وفي لغته المشبوكة بالجزالة، والنزوع إلى قصيدة النشيد، حيث كان السياب يكسر الحاجز، ويلتمس روح الخلق عبر الطبيعة والمرأة، وعبر الأسئلة التي تخص الوجود، لكن حسب سرعان ما افترق عنه، إذ ساكنه قلق آخر، قلق المغايرة، والانفتاح الفلسفي، ورؤيا الفقد، لكن ليس بمعنى ثنائية الموت والانبعاث، كما عند السياب، بل بمعناه الوجودي، حيث الانتظار، والترقب، وانتظار الغائب، الذي جعله الأقرب إلى أسطورة أورفيوس الباحث الأزلي عن أوريديس. هذا البحث الأسطوري، هو ذاته البحث الشعري الذي تلبّس حسب الشيخ جعفر، والذي استغرقه بهواجس المغامرة، ولتجديد تقانة القصيدة ومعجمها التعبيري، فكانت قصائده في مجموعاته الشعرية «الطائر الخشبي» «زيارة السيدة السومرية» «عبر الحائط في المرآة» هي العلامات الفارقة للتحوّل المهم في تجربة الشاعر، وفي تحرير شعريته من «معطف السياب» والشعراء التموزيين، والبحث عن مفهوم آخر للتجاوز، من خلال إنضاج فكرة القطيعة الشعرية، بوصفها وجها آخر للقطيعة المعرفية، ولضرورة أن يجد الشاعر نفسه أمام أسئلة أخرى حول فلسفة التمرد، والتثاقف والحرية والانفتاح على الآخر، مقابل الاقتراب من الذات، بوصفها ذاتا لجوجة، متوجسة، لم تتخلص كثيرا من استغوار الذاكرة، إذ تحضر فيها كل أساطير الجنوب وحكاياته، مثلما تتشاطرها أساطير الإغريق، وحكايات النساء السومريات، وهذا الاحتشاد كان مصدرا مهما في إبراز فرادة الشاعر، وفي تحفيز مخيلته، وتوسيع جهازه الاستعاري، إذ ظلّ مسكونا بفكرة الملاحقة، يتقصى فكرة الغائب والهارب، كمعادل نفسي لبحثه عن «الجمال الهارب» و«السيدة السومرية».

الشاعر والجيل والأيديولوجيا

احتشدت تجربة الستينيات في العراق بالشعراء المغامرين، وشعراء الأيديولوجيا والثورة و»الراية» كما سمّاهم فوزي كريم، وهذا التوصيف أسبغ كثيرا من مظاهره وتجلياته الرؤيوية على تلك التجربة، وعلى المتغير والجديد في أنماط كتابة شعرائها.. علاقة الشاعر حسب الشيخ جعفر بالأيديولوجيا لم تكن صاخبة، فبقدر ما هو الشيوعي المؤدلج، لكنه كان الصموت، وقصيدته تنزع إلى التصريح بـ«نبرته الخافتة» ليبدو شاعرا للحياة، أكثر من كونه شاعر للقضية والثورة، فما هو حسي يحضر بشراهة، وعبر صور تتلاحق وتتكرر، وكأنها تعكس تدفقه الروحي، وشغفه بالوجود، فهو يطرحها كعلامات لتحوله الشعري، ولفصاحة مشهده الشخصي، ذي القاموس والرؤى الخاصة، التي نأى بها كثيرا عن جيل الستينيات على مستوى الرهان الأيديولوجي، أو على مستوى الرهان الشعري. ففي رهان الأيديولوجيا وجد الشاعر نفسه أمام الإرث الماركسي، والمدينة الماركسية والمرأة الماركسية، حيث بوشكين، الكسندر بلوك، ورعويات يسنين، وقصائد مايكوفسكي وإخماتوفا وأوسيب مندلشام، ويفتوشنكو.

هذا الإنوجاد جعله أمام غربة تأثرية إزاء أغلب شعراء المرحلة الذين استغرقتهم روح الغرب، عبر نزعات التمرد، والسأم، والجنس، والوجودية والعبث الكاموي، والتجريب الصاخب في الشعر الفرنسي والشعر الأمريكي، فكان بودلير ورامبو، وأبولينير، وإيف بونفوا، رنيه شار وسان جون بيرس وغيرهم، مثلما كانت قصائد والت ويتمان، وقصائد جماعة «البيت» لاسيما قصيدة «عواء» للشاعر ألن غيسنبرغ، التي تحولت إلى أيقونة شعرية للتمرد والاحتجاج. الاغتراب التأثري في تجربة حسب الشيخ جعفر أسبغ على قصائده خصوصية، وعزلة شعرية، وجد فيها تأطيرا لخصوصية تجربته، واغترابا عن بعض المقاربات النقدية الصاخبة والتبشيرية، التي استغرقتها ـ أيضا – نزعات الشخصنة والتجريب، بتوصيفها الغربي الوجودي والثوري. رصانة تجربة الشاعر وتماسكها جعلته أكثر انغمارا بترسيم ملامحها، عبر نزعتها التجديدية، وعبر خصوصيتها، على مستوى الشكل، عبر تقانة التدوير، وعلى مستوى المضمون، عبر اقترابها من عوالم التصوف، ومن الأساطير والحكايات والميثولوجيات، ومن الطبيعة، إذ هو الشاعر الجنوبي الذي ينزع عبر مركّب بنيته التشكيلية وبنيته الرؤيوية إلى الانفتاح على الطبيعة والاجتماع والواقع في الأولى، وعلى استكناه الأسئلة الوجودية التي كشفت عنها رؤاه في اللغة، وعبر مقاربة أسئلة الذات والجسد والأسطورة…

التجربة وقصيدة التدوير

اعترضت نازك الملائكة على تسميتها، وعلى بنيتها الخطية، ووصفتها بأنها الأقرب إلى النثر، فرغم ما فيها من إيقاع، فإن توزيع الأسطر فيها يُفقدها شرط الشعرية، لكن مهارة الشاعر الشيخ جعفر تجاوزت عقدة التوصيف، وأطلقتها إلى أفق تعبيري أكثر تمثيلا للتجاوز، ولتقويض النمط، ولتوظيف «الاستعارة الفائقة» في كسر الحواجز وفي تمثيل الإيقاع النفسي..

قصيدة التدوير كتابة بصَرية بامتياز، تعكس اهتمام الشاعر بالتشكيل البنائي للكلمات، ولإبراز أهميتها عبر التوليف البنائي، كجزء من فاعلية التجريب، ولاستثمار عناصر السرد والدراما والبناء الحكائي فيها، إذ اغتنت تجربته الشعرية عبر مجموعاته الثلاث «الطائر الخشبي» «زيارة السيدة السومرية» «عبر الحائط في المرآة» لتشكّل عناصر ريادته من جانب، ولجدّة تقانته لتجريب شعري مفتوح على مجاورات كتابية أخرى من جانب آخر، فضلا عن تمثيلها لطاقة الشاعر النفسية، والصوتية في تتبع الأفكار، وفي ضبط إيقاع الزمن اللغوي، إذ يتحوّل المونولوج إلى بؤرة درامية، تستدعي الرؤيا والفكرة والعبارة، مثلما تكشف في بعدها النفسي عن لعبة الشاعر، وهو يكشف عن هواجسه، وأسئلته، وعن الآخر/ الأخرى التي تحضر في القصيدة، وكأنها تمارس إغواءه، والهروب منه، وهو لا يملك سوى الملاحقة، واللهاث، والترقب، والقلق والشغف، وعبر ما يجعل القصيدة فضاء مفتوحا لتجاورات، يختلط فيها الأسطوري، والسحري والتاريخي والطبيعي والحكائي والحلمي والإيهامي، والفيتشي الجنوني والمرأة التي يعدد إيقاع حضورها النفسي والحسي والأيقوني.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

هاتف الجنابي: لا أميل إلى النصوص الطلسمية والمنمقة المصطنعة الفارغة

جنون الحب في هوليوود مارلين مونرو وآرثر ميلر أسرار الحب والصراع

كوجيتو مساءلة الطغاة

علم القصة: الذكاء السردي

موسيقى الاحد: 14 رسالة عن الموسيقى العربية

مقالات ذات صلة

تصورات مغلوطة في علم السرد غير الطبيعي
عام

تصورات مغلوطة في علم السرد غير الطبيعي

د. نادية هناويإنَّ الإبداع أمر عام لا يختص بأدب دون أدب ولا يكون لأمة بعينها دون غيرها كما لا يؤثر فيه تفوق مادي أو تقدم حضاري، بل الآداب تأخذ وتعطي ولا يهم إن كان...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram