TOP

جريدة المدى > عام > مدرسة حسب الشيخ جعفر الشعرية

مدرسة حسب الشيخ جعفر الشعرية

نشر في: 12 إبريل, 2022: 11:33 م

د. نادية هناوي

أفاض الدارسون والنقاد القول في شاعرية حسب الشيخ جعفر مؤشرين على مناطق تميز إبداعية، وفي مقدمة تلك المناطق منطقة التدوير الإيقاعي كسمة أسلوبية طاغية على القصيدة الحسبية إلى جانب سمات أخرى أسطورية واشتغالات تناصية ومسائل ثيماتية تتنوع معطياتها وبأبعاد جمالية كثيرة.

وعدّت نازك الملائكة التدوير تبعة من تبعات القصيدة العمودية، وحددت فائدته لهذه القصيدة في أنه يسبغ على البيت غنائية وليونة لأنه يمده ويطيل نغماته.. ووجدت أن توظيف التدوير في الشعر الحر يبدو مشكلة من المشاكل الفرعية، لأنه قد يمتنع امتناعا تاما لأسباب منها أن التدوير لا يتصل بطول العبارة، وإنما هو محض انشطار في الكلمة إلى شطرين كل منهما ينتمي إلى تفعيلة، لكن ما السبب الذي حمل نازك الملائكة على التعامل مع التدوير من منطلق بلاغي، ولم تتعامل مع الظاهرة من ناحية أنها أسلوب جديد في القصيدة الحديثة. ولعل المقايسة النصية التي عليها أقامت الناقدة معيارها الشعري متأتية من أن القصيدة العمودية تعتمد نموذجاً، والشعر الحر بلا نموذج، بسبب اختلاف بنية أسطره.

وطبيعي أن تجعل هذه النظرة المعيارية التدوير مصطلحا نقديا يعبر عن ظاهرة مبتكرة وجديدة في القصيدة الحديثة كأنه نابع منها بينما هو في الحقيقة مسحوب من توصيف قديم ومتلبس بمظاهر جديدة واعني به الفصل والوصل كأسلوب عرفته القصيدة العربية الكلاسيكية والحداثية، ووظفه رواد قصيدة التفعيلة أيضا لكنه لم يكن ليمثل عندهم مهيمنة أسلوبية. من أمثلة ذلك هذه الأسطر من قصيدة (في السوق القديم) للسياب وفيها نجد أن الوصل ضروري بين الاسطر مع أن كل سطر مكتمل إيقاعيا:

(أنا سوف أمضي فاتركيني: سوف ألقاها هناك

عند السراب

فطوقتني وهي تهمس : “ لن تسير» )

ولكن التدوير شكّل في قصائد حسب الشيخ جعفر ظاهرة مبتكرة نظرا لما تمشربته هذه القصيدة من مرجعيات بعضها خفية ونعني بها السونيت الشكسبير وبعضها جلية كالمرجعيات الثقافية والتاريخية وغيرها، وذلك منذ الديوان الأول لحسب الشيخ جعفر وهو (نخلة الله ) الذي نشره في نهاية ستينيات القرن الماضي وكذلك دواوينه اللاحقة التي فيها تأتي بعض أسطر القصيدة مستقلة إيقاعيا لكنها مرتهنة دلاليا بسردية ما بعدها، وهو ما يتضح في هذين السطرين من قصيدة( الكنز) :

(كنزي الذي فقدته

في رحلتي الخائبة المريرة )

وفي الفصل إيقاعيا والوصل دلاليا غاية جمالية، حرصت القصيدة الحسبية على تحقيقها، وتتمثل في أن الجملة الشعرية لا تكتمل إلا بوصلها وفي الوقت نفسه هي مستقلة بانفصالها عما بعدها.

وما دام السرد عنصرا تكوينيا في القصيدة الحسبية؛ فإن وجود السارد أمر مؤكد ذاتي ومعه السمات السردية الاخرى كالشخصية والاسترجاع والاستباق والمفارقة والحوار والمونولوج.

وهو ما نجده في قصيدة( الراقصة والدرويش) التي في كل مقطع من مقاطعها الخمسة عشر نجد الفصل والوصل, ومنها هذا المقطع وعنوانه( الشك واليقين) وعليه يخيم جو مفعم بالتساؤلات وغارق بعناصر الطبيعة الحية والجامدة وفيها الراوي يتأسى بجمال الحبيبة/ الطبيعة وبراءتها ونقائها كحلم رومانسي به يجافي الواقع القاسي المليء بالشحوب والنضوب والخسارات. والتساؤل والتكرار يعطيان للوصل السردي والفصل الإيقاعي جمالية خاصة:

(أنتِ أم القمر

وجدته يجلس في سريري

يغزل لي مصيري ؟

أنتِ أم الجنية المحلولة الشَعر

ترقص في غمائم العبير ؟

أنتِ أم المطر

أغرقني أثقلني

بالورق الأخضر والثمر ؟

أنتِ أم السراب

أسكرني حيرني

في غابة النجوم والتراب ؟)

ويطغى البعد السردي في قصيدة( في أدغال المدن) ، فيغدو كل سطر مكتفياً ايقاعياً بنفسه لكنه موصول دلاليا بالسطر الذي بعده حتى أننا لا نقرأ أو نستشهد بسطر إلا وصلناه بالذي بعده وهكذا ننتهي وقد قرأنا القصيدة كاملة:

( نخبئ في دغل المدن الرعد، نقتسمُ

القطرات الأخيرة في القدح المتواطيء،

تلقي الرياحُ الشديدة أوراقها فوق أكتافنا

في عواصم منهكة الخصر، آن التوقف عند

الجدور المجعدة الوجد آن التوحد باللهب

المتطاول، في منزل منزو تحت أجنحة النخل

والطير أدركنا الفجر نكتب آخر لافتة

في الظهيرة، تثقبها فوق أوجهنا الطلقات

السريعة، ..... )

فكل مقطع يشكل مع المقاطع الأخرى وحدة موضوعية لا تكتمل إلا بمواصلة القراءة. ولولا أن للقصيدة الحسبية الحرية في فصل أسطرها وتفعيلاتها ووصولها تبعا لطبيعة البنيتين الإيقاعية والسردية فيها، لما كانت ذات شكل تفعيلي ولبدت أقرب إلى قصيدة النثر.

وفي قصيدة( السيدة السومرية في صالة الاستراحة) تتضح مرجعية الشاعر الاسطورية وهو يوظف تموز وعشيقته عشتار ناظرا للمرأة نظرة خاصة، يقول حسب:

( تخيرني وجهك السومري مطارا، فما لي

سوى أن أرحب أو أن اودع ، سيدتي

كنت لي نجمة في سماء المخازن تؤنسني

كلما انحسر المشترون، اتركيني المَّ تقاطيع

ص صالة

الاستراحة، في أوجه العارضات النحيلات)

والابتكار الذي يضفيه الشاعر حسب الشيخ جعفر هو توغله في الاسطورة وتقنعه بها زمنا قادما كظل يرافقه أينما حل ولا زمنا مسترجعا فيه كان طيفها يؤنسه فيعيده إلى اوروك المدينة التي عرفت الحضارة قبل كل مدن الارض، ليكون امتداده سحيقا فهو سليل حضارة عمرها الآف السنين، والشاعر إذ يستحضر في دواوينه( نخلة الله والطائر الخشبي وزيارة السيدة السومرية) ما هو روحي بما هو مادي ويجمع اليوتوبي بالدنيوي والواقعي بالتاريخي، فإنه في ديوان( عبر الحائط في المرآة) يتحرر شيئا فشيئا من الوزن إرهاصا بالانفتاح على السرد وأحيانا ينتهج قصيدة النثر التي فيها يرتفع بالشعر الى مرتبة ابولونية ودينوسيوسية محققا على مستوى البنية الشعرية تجديدا، به يعيد صنع اللغة الشعرية بطريقة عقلانية لا تنقطع عن الموروث الشعري العالمي وفي الان نفسه تبتدع هندسيتها الايقاعية الخاصة التي فيها الإيقاع ليس شرطا وإنما الشرط هو الصورة وطريقة ابتكارها كأن يجرب استعمال أساليب الحوار والمونولوج والقناع والدراما أو يتفرد في اتخاذ مواقف سوسيولوجية وثقافية وانطولوجية. وفي قصيدة( النيزك) يمركز ذاته حول المرأة الملهمة، راسما أجواء درامية حولها، فيقول:

( أحاول منك اقترابا واهرب

آتية في الصدى

الصخر والبحر وجهك

آتية في التشتت

اوقفني في السؤال التفاتك

والشاحب المتستر)

ولا عجب أن تكون ملهمته نيزكا يهبط على وجدانه قصيدة مضمخة بالرموز، وما عليه سوى فك رموز هذا النيزك وقوفا على حقيقته التي فيها حقيقة تجربته، عارفا تلك التي تقدح في روحه أوار الشعر فتلتهب مخيلته بالمبتكر والجديد.

إن حسب الشيخ جعفر شاعر ألمعي وذكي لا لأنه امتلك أكثر من لغة أو لأنه مثقف بموروث شعري قديم ومتشرب لشعر عالمي قلما غاص في خفاياه الشعراء حسب، وإنما أيضا أن تجربته الشعرية استوعبت ميكانيزما التدوير في الشعر واستوعبت فاعليته. هذا الاستيعاب الذي تأصل في دواوينه الأربعة وتعمق، فكانت تجربته بحق مدرسة شعرية لها توجهها الخاص ومساراتها المتفردة عن سائر مدارس الشعر التي جايلتها أو سبقتها.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

هاتف الجنابي: لا أميل إلى النصوص الطلسمية والمنمقة المصطنعة الفارغة

جنون الحب في هوليوود مارلين مونرو وآرثر ميلر أسرار الحب والصراع

كوجيتو مساءلة الطغاة

علم القصة: الذكاء السردي

موسيقى الاحد: 14 رسالة عن الموسيقى العربية

مقالات ذات صلة

تصورات مغلوطة في علم السرد غير الطبيعي
عام

تصورات مغلوطة في علم السرد غير الطبيعي

د. نادية هناويإنَّ الإبداع أمر عام لا يختص بأدب دون أدب ولا يكون لأمة بعينها دون غيرها كما لا يؤثر فيه تفوق مادي أو تقدم حضاري، بل الآداب تأخذ وتعطي ولا يهم إن كان...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram