ناجح المعموري
صدر حديثاً عن مكتبتي الرافدين وعدنان، العمل الموسوعي للناقد البارز د. زهير صاحب " حوار الحضارة والفن،
في فنون الحضارات الذهبية" وقدم الأستاذ زهير صاحب أنموذجاً معرفياً ن وفنياً مبتكراً، معتمداً على الكشوف الآثارية والحفريات التي جعلت من حفريات الشرق، ابتداء من سومر وأكد وكنعان ومصر، بحيث تمكن وبنجاح مبهر تقديم توصيف دقيق للحياة العامة للأفراد، أو الجماعات التي لاذت بتجمعها لتوفر نوعاً من الأمان والسلم.
ومن هذه اللحظة البدئية التي اطلق عليها د. زهير صاحب “ عصر الكهوف “ حيث قدم فحصاً دقيقاً ورسم مشهداً مبكراً محكوماً بالضبط عرض المشهد البشري الذي اتضح مكشوفاً في مرحلة الكهوف التي تمثل لحظة بدئية لما ابتكره الأفراد ولكنه مقيد بزمان ومكان لفك مغاليق الجدل بين الحضارة والفن، علينا أن نكون بدايتنا بأقدم العصور التي شهدت الابداعات الفنية في التاريخ الانساني.. حيث كانت التجارب الفنية للكائن البشري هي الرسوم التمثيلية لما هو موجود بالطبيعة مع سيادة علامات ورموز هي وسائل التداول والتواصل بين الأفراد. وتمثل هذه اللحظة التاريخية عتبة بدئية ابتكر فيها الانسان آلية التفاهم الاشاري، قبل عتبة اختراع اللغة. لذا بإمكاننا أن نتعامل مع الرسوم والاشارة المرسومة على جذوع الاشجار وداخل الكهوف باعتبارها تعبيراً مادياً مع ظهور الاختلاف بسبب تباين درجات التأثر وتمثيل المرئي وتطويعه عبر الرموز.
حتى يومنا هذا بقينا نؤمن بأن الفنون هي ملاذنا الذي لن يطاله رجل العلم. لقد ظننا بأن الفنون هي مجال الحركة بعينها كما قال شتراوس واهتمت الدراسات الانثربولوجية الحديثة بالتحقق من الرسوم الفنية المنتشرة وسط الكهوف على الاحجار والعظام وجذوع الأشجار، حتى حصل التعامل معها بوصفها ابداعات جوهرية، خضعت لديمومة بقاء وسيرورة التحولات التي حازت تطوراً واضحاً، من هنا ركزت دراسات الفن ومتابعات الفن القديم على وجود متماثلات بين المتروك الفنية المتروكة والانجازات التي تحققت في العصور المتأخرة، لأن العقل الحديث لا يقوى على تجاهل كل ما ظل موجوداً، بل ذهب بحماس لتوظيفه والانشغال به وذلك لحيوية المتروك الجوهري والذي كان وسيظل بتأثيره البالغ المعبر عنه بالتأثير عبر بروز الرموز والعلامات والدلائل الكاشفة عن حيوية الكائن البشري وامكاناته العالية في ولعه بالتطور. وذهبت دراسات الفن والجذور الحضارية الى الانتباه لأهمية بدايات التدوين عبر العلامات والاشارات والتي هي عتبة بدئية لنوع من الكتابة التي اخترعها الانسان ليجعل من حياته عظيمة وقابلة للفهم وحاضرة للتداول ن وفي مثل هذه العتبة، كان الجهد الانساني بمستوى رفيع ودل على حضارة كبرى وأشار ليفي شتراوس الى انه يمكن ادخال أحد المكتسبات الجوهرية للثقافة، والذي هو بحد ذاته شرط كليانية المعرفة والتعرف على الحضور والاستخدام الجوهري كما كان ماضياً، وتوصلنا له عبر الحدس هو الدال المركزي على الحضارة وقوتها. وهذا الحدس الكاشف على أوليات التدوين الذي أشرنا له قبل الآن يعني بأنه الفتح الكبير للحظة التدوين التي أضفت صفة مغايرة لما كان سائداً أنه عصر الكتابة، أعظم لحظة حضارية ذهب اليها الكائن البشري تدريجياً.
أكد شتراوس على ان الشعوب التي نطلق عليها بالبدائية تمتلك قدرات التذكر المذهلة للغاية والتي ساعدت على الدنو أكثر على التدوين. كان الفن أول الآليات التي ابتكرها الفرد الذي وجد نفسه وسط الغابة محاطاً بعديد من الكهوف، وفرت له امكانات الوعي والتعرف التدريجي والبطيء ومن هنا سارع للحفر على الجدران الداخلية للكهوف وزودته الطبيعة بما هو أحد أهم الوسائل وأعني بها الألوان والتقرب اليها هي من أعظم التطورات العقلية التي قادت الكائن نحو الابتكارات المستمرة. وسجلت دراسات وبحوث الآثار والحضارة في الشرق وحصراً في حوض الابيض المتوسط بين الالف الثالث والرابع قبل الميلاد. حيث بدأ الانسان الاقتراب لمحيطه أكثر فأكثر واستجاب للضغوط الملحة التي قادته نحو التعرف والاكتشاف. وابتدأ الكائن البشري نحو تطويع الرموز والاشارات والعلامات، ويجعلها أكثر ليونة ومرونة ويأخذها نحو التدوين أو الاقتراب للكتابة. ومثلما قال شتراوس: لقد ظهرت الكتابة في تاريخ البشرية وقد تمت اكتشافاتها الأكثر أهمية والأكثر حساسية وبدأت لحظة تاريخية مغايرة، هي اكتشاف فنون الحضارة التي بقيت هي الأساس لوجودنا كما قال شتراوس [ قبل الزراعة وتدجين الحيوانات وصناعة الفخار والنسيج، إنها مجموعة من الوسائل التي سمحت للمجتمعات البشرية أن تعيش بشكل مختلف عما كانت عليه في الأزمنة القديمة، حيث اعتادت على العيش من قوت يومها وخضعت لتقلبات ظروف الصيد والجني اليومي ] جورج شاربونيه / حوارات مع كلو وشتراوس / دار نون / ص29.
مع ملاحظة التطور الحاصل في الحياة البدئية، وظهور تحولات حضارية أساسية، لعبت دوراً مهماً في اقتران التحولات مع العقل البشري الذي خضع لظاهرة القبول بما هو تمثيل للتحولات، من هنا اقترن العقل الانساني مع ظاهرة العلاقة العميقة مع كل له تأثير بالتطور المقبول والظاهر بالحياة التي يتطلبها الانسان. لكن كل الذي حصل بوصفه تحولاً، ظل محدود التأثير على الدور الذي لعبته البدئية وسجلت لحظة سيادة الفنون باعتبارها الانموذج الرفيع والبديع الذي نفذه الانسان لأن مثل الرسوم الكهفية، لا تمثل جهد الكائن بالرسوم مقلداً ما هو السائد بالغابة، ولكن كشف لنا بأن العقل البشري كشف عبر رسومه الكهفية توفره على العلم الكيميائي الذي اخذه لفهم الألوان وآلية الخلط والتخمير والنجاح بخلاصات متطورة أغنت الرسوم عبر ألوان لم تكن معروفة مثلما حصل في مرحلة متغيرة. ولكن لابد من الاشارة الى أن رسوم الكهوف والأخرى التي صارت آلية تجميل للمساكن التي عرفتها القرى الزراعية المتطورة والتي اقترحت نظامها الثقافي والفني وتمركز المطلوبات السحرية والشعائرية التي هي من مكونات الدين البدئي. مع كل هذا التحول، نشأت قوى اجتماعية وسط القرى واستعادت اصطفافات واستعدادات، ستفضي بالضرورة لتحقق توسع الجماعات الزراعية والفنية وتشكلات القرى السكنية الجديدة وحتماً ستتبدى عن تمثيلات ابتكارية جديدة بالفنون والثقافة وخصوصاً في مجالس المطبخ والازياء والعلاقة الثنائية بين الرجل والانثى.
أثار جهد د. زهير صاحب ملاحظاتي وهو الفاعل الحيوي وله علينا متابعات لأن كل ما تضمنه هذا الجهد العلمي مثير للحوار والاغناء الثقافي. وما تحقق لنا تمثيل امتداد لإنجازاته الموسوعية الجوهرية.