TOP

جريدة المدى > عام > نهاياتٌ تقود لبدايات جديدة

نهاياتٌ تقود لبدايات جديدة

نشر في: 26 إبريل, 2022: 11:15 م

لطفية الدليمي

ليس غريباً أن تسود الرؤى الديستوبية في أوقات الأزمات. تلك حقيقة متواترة في التأريخ البشري، وقد خَبَرْنا في السنتين الماضيتين الكيفية التي ساهمت بها الجائحة الكورونية في شحذ رؤى السايكوباثيا الديستوبية.

يبدو أنّ البعض مشحونون برؤى قيامية apocalyptic ترى في كلّ معضلة عالمية تجابه الانسانية مصداقاً لرؤاهم. إنها متناقضة بشرية تدعو إلى الدهشة ؛ ففي الوقت الذي نرى فيه العلماء في كلّ بقاع الأرض مهجوسين بكيفية درء الأخطار المحدقة بالبشرية بوسائل عملية، يكتفي البعض بالجلوس فوق التلّة والتلذذ برؤية الناس وهي تغرق في المعاناة اللانهائية. هذا البعض ليس جزءً من الحلّ بالتأكيد ؛ لكنه فوق ذلك يساهم في التبشير بالنهاية المأساوية للعالم. إذا لم تكن ترغبُ في أن أن تكون جزءً من الحل ؛ فعلى الأقل لاتساهم في التبشير بالنهايات المرعبة للعالم. لاتكن نذيرا يساهم في بث اليأس والانذار بنهايات قيامية للعالم وكأننا على أبواب ثقب أسود سيلتهم العالم عمّا قريب، وليس أمامنا سوى توديع أحبائنا في رحلة لاعودة منها . يمكن عدّ كتاب (غرق الحضارات) للكاتب العالمي أمين معلوف مثالاً قياسياً على هذا النوع الديستوبي من الكتب.

قرأت كتابا عنوانه « الإنفجار العظيم: عصر النهايات «، لمؤلفه الدكتور إدريس أوهلال، صدر عام 2021 عن مجموعة الأكاديميات الدولية IAG. كان العنوان ملفتاً لي بسبب حمولته الدرامية. قرأت الكتاب في جلسة واحدة ؛ فهو ليس من الكتب البدينة ؛ بل هو أقربُ إلى استشرافات شخصية لواقع حال الانسانية. الكتاب له فضائله فهو يبتعد عن المقاربات الديستوبية الشائعة الموصوفة أعلاه، ويمنح القارئ غير المتخصص رؤية شاملة لواقع حال البشرية والمعضلات الراهنة التي تواجهها والتي تبشر بنهايات عديدة فصّل فيها المؤلف. الكتاب جهد يُحْسَب للكاتب، وهو من الكتّاب المغاربة المتخصصين بتصميم الستراتيجيات والدراسات الشاملة العابرة للتخصصات الضيقة.

يبدأ الكتاب بفصل عنوانه (فقه النهايات) ونقرأ فيه العناوين التالية : الإنفجار العظيم، عصر النهايات الكبرى، نهاية دورة تأريخية، هل هي مؤامرة عالمية؟ هل هي نهاية الرأسمالية العالمية؟ هل نسير إلى الهاوية؟ المنزعجون من النهايات، في فضائل الأزمات، الضوابط المنهجية لخطاب النهايات.

بعد هذه المقدمة التمهيدية يبدأ المؤلف في الكشف عن خريطة نهاياته. يبدأ أولاً مع النهايات في المجال التعليمي: نهاية المدرسة، نهاية الجامعة، نهاية التخصص، نهاية الشهادة الاكاديمية. يتبع هذا فصلٌ يتناول النهايات في المجال الثقافي والإعلامي: نهاية الوسائل التقليدية لنقل المحتوى، نهاية الإعلام التقليدي، نهاية المثقف، نهاية التفكير. بعد هذا يقودنا المؤلف نحو فصلٍ يتناول فيه النهايات في المجال الإجتماعي: نهاية المجتمع، نهاية الطبقة المتوسطة، نهاية الصراع الطبقي، نهاية الأسرة، نهاية الخصوصية، نهاية السعادة. يتناول الفصل الخامس نهايات في المجال الاقتصادي: نهاية السوق، نهاية النقود، نهاية الوظيفة العمومية، نهاية أنظمة التقاعد، نهاية الطاقة الاحفورية، نهاية الاستهلاك المسؤول. يتناول المؤلف في الفصل الأخير نهايات في المجال السياسي: نهاية السياسة، نهاية القيادة، نهاية الديمقراطية، نهاية الحريات الفردية، نهاية الدولة الاجتماعية، نهاية المصلحة العامة. ثمّ ينهي المؤلف كتابه بخاتمة يقدّمُ فيها معالم بداية دورة تأريخية جديدة.

لنبدأ أولاً بفضائل الكتاب:

أولاً: ينتمي الكتاب لفئة الدراسات المستقبلية Future Studies، تلك الفئة التي لاتلقى إلا أقلّ المقروئيات في عالمنا العربي. يحرّك المؤلف الكثير من المياه الراكدة باتجاه استشراف الرؤى المستقبلية لصيرورة العالم. نحنُ في النهاية جزء من هذا العالم، ويهمّنا مايمكن أن يحصل له من نهايات وبدايات.

ثانياً: تأكيد فكرة أنّ الحياة لعبة صراعية على المستوى الفردي مثلما على المستوى الجماعي. هذا هو واقع الحال الذي لانستطيع تلطيفه أو تزويقه بادعاءات فلسفية عن ضرورة الحياة التشاركية:

« الحياة باختصار وفي كلمة واحدة لعبة، واللعبة صراع، وفي كلّ صراع يوجد لاعبون كبار وتابعون، ولكلّ لاعب مشاريعه واستراتيجياته في المواجهة، واللاعبون الكبار لايكتفون في العادة بالهيمنة المادية وإنما يزاوجون بينها وبين الهيمنة الرمزية باستخدام ستراتيجيات العنف الرمزي..... «

ثالثاً: الطرائق الممكنة في مقاربة فلسفة النهايات

فرضية الاستمرارية والتجديد: يرى هذا التوجه أن خطاب النهايات فيه الكثير من المبالغة، وأن كل مافي الأمر تغييرات وتحولات طبيعية ومألوفة ومتكررة عبر التاريخ في إطار التجديد.

فرضية الفوضى والأزمة والإندثار: يرى هذا التوجه أننا نعيش في فوضى عالمية متزايدة، وأننا نمضي صوب الكارثة، وأننا فقدنا القدرة على التكيف.

فرضية النهايات والبدايات: وهي فرضية ثالثة تعتقد بوجود نهايات حقيقية، وبأن مايحدث ليس من جنس التغييرات والتحولات الطبيعية المألوفة في إطار التجديد للعبة ولقواعدها ؛ وإنما تفجير لها من الداخل لكنما دون أن يعني ذلك أننا نتقدم نحو الكارثة، وإنما يعني أننا نتقدم نحو بدايات جديدة.

رابعاً: التفريق بين خطاب النهايات الفلسفي وخطاب النهايات العلمي

خطاب النهايات الفلسفي يتحدث عن نهايات مجردة: نهاية العلم، نهاية الفلسفة، نهاية التاريخ، نهاية الإنسان، نهاية الدولة... إلخ من مواقع فكرية مجردة وبمنهج تأملي مجرد ولهدف تصفية حسابات فكرية أو خدمة مصالح فئوية ؛ أما خطاب النهايات العلمي فيستشرف مستقبل مؤسسات وقيم تمثل جزء من واقع الناس ومعيشهم اليومي كالمدرسة والوظيفة والنقود والحريات الفردية، ويستهدف مساعدة الأفراد والمنظمات والحكومات على رؤية المستقبل بشكل أفضل، واتخاذ أفضل القرارات لبنائه.

خامساً: التوصيف الدقيق لسايكولوجيا النهايات

الوضع الراهن - برأي المنزعجين والخائفين والمرعوبين - يدعو للصمت والترقب فقط، ولاحاجة لنا بالتحليلات والرؤى. اليوم لاشيء واضح، لا عدو واضح ولا صديق واضح. نحن في فتنة، وبالتالي فحاجتنا الأولى والوحيدة هي الصمت ثم الصمت ثم الصمت. إنه زمن الصمت والهدوء والرجوع للذات ولملاذاتنا الآمنة، ولسنا خائفين من شيء، ولاراغبين في شيء .

سادساً: بساطة عرض الموضوعات

يبدو أنّ المؤلف – وهو من المتمرّسين في تقنيات التنمية الذاتية – يعرف أنّ القارئ العربي لايطيق التحليلات الاكاديمية المطوّلة والدراسات الاستقصائية المسهبة ؛ لذا نراه يعتمد مقاربة اختزالية صارمة تقوم على أساس كشف مظاهر كلّ نهاية مع بيان قائمة بمسبباتها ؛ الأمر الذي يجعل من الكتاب مادة مناسبة للتداول في الفضاء العام.

سابعاً: التأكيد على النبرة التفاؤلية العقلانية في مقابل شيوع السوداوية السايكوباثية الراهنة

يؤكّد المؤلف بهذا الشأن وفي الفصل الختامي من الكتاب: «... علينا - ونحن نستعرضُ النهايات - أن نزرع الأمل الايجابي لاالأمل الكاذب ؛ فجميع النهايات تقود إلى بدايات جديدة لاإلى الكارثة أو الهاوية. صحيحٌ هو القول بوجود نهايات، وأنّ لكلّ حقبة من التأريخ نهاية ؛ لكنّ التأريخ لانهاية له. «، ثمّ يُتبِعُ المؤلف رؤيته العقلانية المتوازنة هذه بستراتيجيات عشر تمثل مفاتيح مركزية للتعامل مع النهايات المستجدّة.

* * * * *

قدّم الكتاب خريطة مسحية سريعة ومقتضبة لما يمكن أن تلاقيه البشرية في السنوات القادمة من نهايات لبنى هيكلية قديمة وولادة أخرى جديدة ؛ وبرغم أنّ المؤلف إجتهد أن يكون عابراً على الآيديولوجيات لكني أرى بعضاً من الإسقاطات الآيديولوجية في ثنايا الكتاب. دعوني أقدم لكم مثالاً واحداً فحسب: ثمة أكثر من موضع واحد يصف فيه المؤلف الرأسمالية بِـ « الرأسمالية المتغولة المتوحشة «، وواضحٌ من السياق الذي يجري الحديث عنه أنه يقصدُ الرأسمالية الجديدة التي نشأت عقب شيوع فلسفة النيوليبرالية. إنّ من الخطل المفاهيمي المساواة بين كلّ الرأسماليات ؛ فهي ليست لوناً واحداً ولاصيغة واحدة. كيف لنا مثلاً أن نساوي رأسمالية دولة الرعاية الإجتماعية السائدة في المنطقة الاسكندنافية مع رأسمالية الأسواق الحرة المنفلتة المحكومة بالمشتقات المالية والاقتصاد الرمزي القائم على تداول أصول وهمية؟

لو سئلتُ عن أي الكتابيْن سأختار يكون كتاباً مرشحاً لقراءة منتجة فسأختارُ كتاب الدكتور أوهلال على الرغم من الشهرة الطاغية لمعلوف والمهرجانات الاحتفائية به وكونه يجلس على كرسي الانثروبولوجي الفرنسي الراحل كلود ليفي شتراوس ؛ إذ ليس أيسر من التبشير بنهايات قيامية وشيكة ووصفها وصفاً مسهباً وكأننا في مأتم جنائزي عالمي. لاينبغي التعتيم على معضلاتنا العالمية الوجودية الخطيرة ؛ ولكن في الوقت ذاته ليس الانذار بالرؤى القيامية من خصال العلماء الذين يظلون مسكونين بروح القدرة على مجاوزة واقع الحال مهما كان كئيباً، ويحضرني في هذا المقام عنوان لكتاب رائع حاز مقروئية عالية في أوساط المثقفين الغربيين، صدر عام 2014، عنوانه) المعرفة: كيف يمكن إعادة بناء عالمنا من الصفر The Knowledge: How to Rebuild Our World from Scratch) لمؤلفه لويس دارتنيل Lewis Dartnell. هكذا يجب أن نكون: أن نقدر على إعادة عالمنا حتى لو طاله تدمير مقصود أم غير مقصود. هذه رؤية عصية بالطبع على معتنقي الرؤى الديستوبية والمنذرين بالنهايات القريبة.

إنّ قراءة كتاب مثل (الانفجار العظيم: عصر النهايات) تجربة جميلة مثلما هي ضرورة لازمة ؛ فنحن في النهاية جزء من هذا العالم، ولايمكننا غض الطرف عمّا يحصل فيه من تغييرات متسارعة ستعيد ترسيم تضاريسه في السنوات القليلة المقبلة.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

هاتف الجنابي: لا أميل إلى النصوص الطلسمية والمنمقة المصطنعة الفارغة

جنون الحب في هوليوود مارلين مونرو وآرثر ميلر أسرار الحب والصراع

كوجيتو مساءلة الطغاة

علم القصة: الذكاء السردي

رواية "لتمت يا حبيبي".. إثارة مشاعر القارئ وخلخلة مزاجه

مقالات ذات صلة

تصورات مغلوطة في علم السرد غير الطبيعي
عام

تصورات مغلوطة في علم السرد غير الطبيعي

د. نادية هناويإنَّ الإبداع أمر عام لا يختص بأدب دون أدب ولا يكون لأمة بعينها دون غيرها كما لا يؤثر فيه تفوق مادي أو تقدم حضاري، بل الآداب تأخذ وتعطي ولا يهم إن كان...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram