طالب عبد العزيز
“كلّ قارئٍ يوجَد كي يضمنَ لكتابٍ مُعيَّن قَدْرًا مُتواضِعًا من الخلود، القراءة بهذا المفهوم، هي طقس انبِعاث”. وأخيرًا أنا أقرأ لأنّني مُدمن، أشعر بتهارشٍ فظيعٍ في عقلي، إنّني أحتاج إلى جرعةٍ يوميّةٍ ودائمةٍ منها لكي لا أموت، لكي لا تصدأ روحي،
ولكي أضبطَ إيقاع الأفكار الّتي تبدأ بالتّلاطم والهياج في اللّحظة الّتي يطول فيها تناول الجرعة. هذا ما يقوله ألبرتو مانغويل عن القراءة. ولكل منا نحن معشر الكتّاب قول ومعنى في حاجتنا الى القراءة والكتاب. شخصياً أصبحتُ هذا اليوم ضجراً، متأففاً من الكتب والكتابة والقراءة، ولدي شعور بأنَّ مهناً أخرى ربما تكون أقلَّ ضرراً عليَّ من المهنة المُذلَّةِ هذه.
أنا أكتب لأعيش. جملة صادمة أليس كذلك؟ لكنْ، نعم، فراتبي التقاعدي لا يكفيني وأسرتي وجبة واحدة، في مطعم من الدرجة الأولى. القراءة والكتابة والعيش الى جوار المكتبة جعلني انساناً كبيراً، وهامّاً بعض الشيء، وبروح ارستقراطية الى حدٍّ ما، أفاخر بها وأنسب لنفسي ما ليس فيها، لكنني في الواقع غير قادر على تحقيقها. الكتب علمتني صناعة الجمال، والوقوف على حافات العالم، والتطلع الى ماهو رقيّ ونعيم، وارتفعت بي الى سموات لا حدود لها، أنا برجوازي في روحي، لكنني فقير ومعدم في الواقع، وهذه معادلة لا أجد السبيل الى حلها، إذ ما معنى أنني أكتب لأعيش، هل هناك مهنة اقسى من هذه؟ كنت أرى في الشعر والرواية وتصفح المعاجم وقراءة أمهات الكتب في اللغة والفكر والفلسفة وغيرها ما أردم به الهوة العميقة التي تفصلني عن العالم الوضيع، ما يميزني عن أقراني الذين لم يقرأ أحدهم كتاباً ولم يكتب حرفاً مضيئاً.. لكنني وجدتُ نفسي تنحدر الى السحيق المظلم.
لا أعرف من يكمن وراء بدعة (يوم الكتابة) والاحتفال به، لكنه استذكار جميل، قد ينفعنا في تعريف يوم استثنائي، أو جعله مادة للحوار والاهمية أو اللأهمية عند العامة، من الذين لا علاقة لهم بالكتابة والكتاب، وما أكثرهم، في كون ذاهب بكليته الى جعل المعرفة هامشاً، وهذا ما نلمسه في حياتنا بشرقنا العربي بخاصة، حيث لم تعد مكتبة البيت مثابة العائلة ومباهاة الاولاد، ولا أثر للدهشة في وجه أحدٍ من الجيران، إذا ما دخل البيت وشاهدت مكتبة، ملئية بالكتب، إذ لم يعد الفضول قائماً في التصفح حتى. الأجهزة الالكترونية مثل الهاتف الجديد، متعدد الاغراض، أو السيارة الحديثة، بتقنية عالية وسواها باتت هي المسعى الاسر والتباهي الاول.
يسألني أولادي عن مصير أكثر من عشر علب كارتونية، مملوءة بالكتب، أنزلتها من الارفف، فاسحاً المجال لكتب أخرى جديدة، كنت رزمتها لانتفاء الحاجة المباشرة لها، أو لأنَّ الكتب الجديدة تمنحني إغراءًا أقوى، لذا نضطر جميعاً بين آونة وأخرى الى تغيير مكانها، عند دخول المواسم، وتحريك الاثاث من مكان لآخر، فأجدها وقد باتت عبءًا عليهم، فهي ثقيلة، وعليها ما عليها من الاتربة والاغبرة، وتحتجز مكاناً، ولطالما وجدتني قائلاً ً: ترى، ما الذي يدعوني للإحتفاظ بها؟ ولم تغّير من واقعي الحياتي شيئاً، أنا الذي قاربت السبعين عاماً اليوم، ولم يبق لي في حافظة السنوات ما يغريني لمراجعتها ثانية، أو للمرة الاخيرة حتى؟ هناك، مآلٌ خفيٌّ، لم يُظهره لي أحدٌ من العائلة، مفاده أنها ستكون طعماً للتنور إنْ لم تأخذ طريقها الى حاوية النفايات الكبيرة.
كنتُ سأطلب من أسرة التحرير أعتذاراً عن مادة اليوم هذه، فآلام الرقبة لا تحتمل، هناك سيخ من نار يخترق عمودي الفقري، وبرمي من الجلوس خلف آلة الكتابة والتصفح بات أكثر من أي وقت مضى، ولدي شعور بلا جدوى كل شيء. ومثل صاعقة محرقة مضنّي خبرُ موت صديقي الشاعر الآشوري زهير بهنام بردى، الذي ظلَّ يكتب الشعر مثلي معتقداً بأنه سيعيش كما أراد.