اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > قناديل: هل القراءة مهنة؟

قناديل: هل القراءة مهنة؟

نشر في: 7 مايو, 2022: 11:13 م

 لطفية الدليمي

وأنا أتصفّحُ الشذرات الفيسبوكية اليومية التي ينقلها الصديق علي حسين، القارئ النهم وعاشق الكتب، وقعت أنظاري قبل أيام على غلاف كتاب عنوانه (مهنة القراءة). جفلتُ وأنا أرى العنوان، وتساءلت: هل القراءة مهنة حقيقية؟ وحتى لو كان ممكناً من الناحية الواقعية أن تكون القراءة مهنة؛ فهل يجب أن نجعلها مهنة؟

لاأحسبُ أنّ مؤلف الكتاب قصد بمهنة القراءة أي توصيف يفهم منه القارئ أنّ القراءة مهنة بالمعنى المتداول: عملٌ يتقاضى معه القارئ أجراً يعتاشُ منه. صحيحٌ أنّ بعض المهن في هذا العالم تقتضي قراءات مسهبة في ميادين محدّدة؛ لكن القراءة فيها فعلٌ ملحقٌ بوظيفة أكبر من فعل القراءة ذاته. مهنة القراءة التي أرادها المؤلف وأوحى بها بطريقة مضمرة هي توصيف رمزي لمن عشق القراءة منذ أطواره الأولى في الحياة حتى بدت كأنها مهنة له، وماهي كذلك.

أذكر في هذا المقام واقعة كتب عنها الفيزيائي ذو الصيت العالمي بول ديفيز قائلاً أنه شعر منذ بواكير حياته أنه خُلِقَ ليكون فيزيائياً نظرياً، وعندما أخبر والديه برغبته بعد إكماله الدراسة الثانوية في الإلتحاق بقسم الفيزياء في الجامعة قال له أبوه: « بُنَيّ، هل تتصورُ أنّ أحداً ما في هذا العالم سيدفعُ لك مالاً لكي تجلس وتتأملَ في هذا الكون وقوانينه الأساسية؟ لاأحد سيدفعُ لك مالاً إلا إذا قمتَ بعمل حقيقي !!». كان الأب على خطأ بالطبع؛ فقد صار إبنه لاحقاً إسماً كبيراً في عالم الفيزياء والكوسمولوجيا والكتابة، واجتنى مالاً وفيراً من عمله أستاذاً جامعياً وكاتباً حققت كتبه مبيعات كبيرة.

يمكنُ أن تصحّ مشابهة رأي والد بول ديفيز مع فعل القراءة: لاأحد سيدفعُ لك مالاً إذا ماقرأت معظم كلاسيكيات الأدب العالمي والحديث منه والمعاصر، أو إذا تابعت قراءة مايُتاحُ لك من الإصدارات العلمية الحديثة بلغاتها الأصلية أو مترجمة. القراءة فعالية تكافئ نفسها بنفسها تسامياً وانتشاء ومتعة روحية عميقة، وتحليقا بالروح إلى مرتقيات جديدة، وتحصيلاً لخبرات أكبر من أن يحوزها فرد واحد في حياة واحدة.

لكن، وفي سياق تجربة فكرية، دعونا نتصور إمكانية أن تكون القراءة مهنة؛ بمعنى أن يأتيك جنيّ المصباح السحري ليعرض عليك عرضاً واضحاً: إقرأ عشرة كتب في الشهر، مثلاً (لابأس أن يختارها الجني) وسأتكفلُ أنا بتكاليف معيشتك عيشة مرفهة. قد يبدو العرض مغرياً؛ بل وحتى أفضل من المقايضة الفاوستية المعروفة لأنك لن تبيع روحك للشيطان ولن يُطلَبَ منك شيءٌ في مقابل القراءة. أن تقرأ وحسب، هذا هو كل مامطلوب منك. ماذا يعني أن تحصل على مال لقاء فعل قراءة خالص ولاشيء سواه؟ هل فكّرت بجديةٍ في هذا الأمر؟ ستذوي رغبتك في القراءة مع الأيام، وستتحوّلُ ماكنةً للقراءة لاتشعرُ بما تفعل بسبب غياب الفعل المحفز على الحياة والذي يشعرُ معه المرء بأنه يعيش ويتنفس. أن تنهض صباحاً وتذهب للعمل خيرٌ ألف مرة من أن تتعفن في فراشك متراخياً كسولاً، ولعلّ جان بول سارتر كشف عن هذه الحقيقة عندما كتب بأنّ أجمل سنوات حياته عاشها عندما كان عضواً فاعلاً في المقاومة الفرنسية ضد الاحتلال الألماني. كان سارتر حينها عرضةً للموت كلّ لحظة، ومع مجابهة الموت تتعاظم قيمة الإحساس بالحياة.

كلّ مهنة فيها جانب إستلابي لانرتاح إليه، وهذه الحقيقة إحدى الكشوفات العظيمة للفلسفة الماركسية التي لم تزل حية حتى يومنا هذا؛ لذا قيل في الأمثولات المتداولة «سعيدٌ من كانت هوايته هي مهنته «. قد تصلحُ هوايةٌ ما أن تكون مهنة تأتي بمال يكفي متطلبات عيشة مستورة؛ لكنّ هذا لايصحُّ مع القراءة، ولايجب أن يصح.

معظم الناس في العالم يقرأون، أينما كانوا وفي كل الأوقات، تراهم على الدوام يقرأون كتباً ورقية أو ألكترونية أو صوتية متاحة. هل إنتبهتَ أنهم يقرأون خارج وقت الوظيفة؟ القراءة ليست وظيفة إذن بقدر ماهي فعلٌ يمثل واحة استرخاء خارج الوظيفة؛ لذا لاأحد منهم يهتمُّ بنشر قوائم طويلة عن كتب قرأها في الشهر الفلاني أو السنة الفلانية. إقرأ مائة كتاب أو ألفاً. لن يعني الأمر شيئاً للآخرين، وليس في هذا الأمر مأثرةٌ لك. الأساس هو أن تقرأ وتتمتع بما تقرأ وتكسب خبرة مضافة ترتقي بحياتك؛ أما أن تجعل من نفسك إعلاناً إستعراضياً لماكنة قراءة بشرية فليس هذا شأن الآخرين. إقرأ وتمتع بما تقرأ، هذا هو منتهى الأمر وخلاصة الحكمة في القراءة.

القراءة فعلٌ نرتاحُ إليه ونحن في خلوة محببة، ونفعله إرضاءَ لأنفسنا لالغيرنا، ولسنا نطلبُ منه مكافأة سوى المتعة والخبرة وترميم ماانكسر من أرواحنا في هذه الحياة، لنواصل العيش بقلب ثابت يحتمل المشقات.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

وزير الداخلية في الفلوجة للإشراف على نقل المسؤولية الأمنية من الدفاع

أسعار الصرف في بغداد.. سجلت ارتفاعا

إغلاق صالتين للقمار والقبض على ثلاثة متهمين في بغداد

التخطيط تعلن قرب إطلاق العمل بخطة التنمية 2024-2028

طقس العراق صحو مع ارتفاع بدرجات الحرارة خلال الأيام المقبلة

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

العمودالثامن: عقدة عبد الكريم قاسم

العمودالثامن: فولتير بنكهة عراقية

وجهة نظر عراقية في الانتخابات الفرنسية

عاشوراء يتحوّل إلى نقمة للأوليغارشية الحاكمة

من دفتر الذكريات

العمودالثامن: هناك الكثير منهم!!

 علي حسين في السِّيرة الممتعة التي كتبتها كاترين موريس عن فيلسوف القرن العشرين جان بول سارتر ، تخبرنا أن العلاقة الفلسفية والأدبية التي كانت تربط بين الشاب كامو وفيلسوف الوجودية استبقت العلاقة بين...
علي حسين

كلاكيت: الجندي الذي شغف بالتمثيل

 علاء المفرجي رشح لخمس جوائز أوسكار. وكان أحد كبار نجوم MGM (مترو غولدوين ماير). كان لديه أيضا مهنة عسكرية وكان من مخضرمين الحرب العالمية الثانية. جيمس ستيوارت الذي يحتفل عشاق السينما بذكرى وفاته...
علاء المفرجي

من دفتر الذكريات

زهير الجزائري (2-2)الحكومة الجمهورية الأولىعشت أحداث الثورة في بغداد ثم عشت مضاعفاتها في النجف وأنا في الخامسة عشرة من عمري. وقد سحرتني هذه الحيوية السياسية التي عمّت المدينة وغطت على طابعها الديني العشائري.في متوسطة...
زهير الجزائري

ماذا وراء التعجيل بإعلان "خلو العراق من التلوث الإشعاعي"؟!

د. كاظم المقدادي (1)تصريحات مكررةشهدت السنوات الثلاث الأخيرة تصريحات عديدة مكررة لمسؤولين متنفذين قطاع البيئة عن " قرب إعلان خلو العراق من التلوث الإشعاعي". فقد صرح مدير عام مركز الوقاية من الإشعاع التابع لوزارة...
د. كاظم المقدادي
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram