د. نادية هناوي
عادة ما تصنف المقالة بأنها جنس من ضمن أجناس النثر المعروفة في العصر الحديث، ومن غير المعتاد تصنيفها جنسا يندرج مع أجناس السرد او الشعر والسبب عدم خضوعها لمفاهيم نظريات الشعر والسرد.
والمقالة على تنوع أغراضها وتعدد أشكالها، ذات قالب تؤلفه عناصر محددة تتركب فتكون بمجموعها الوحدة البنائية التي من خلالها نعرف أن هذه الكتابة مقالية.
ولو لم تكن للمقالة عناصرها التي تشكل إطارها الحدي لما كانت لها أجناسيتها المستقلة بذاتها، ولا إشكالية في عد المقالة جنسا لوحدها، لكن الإشكالية هي في إمكانيات قالب المقالة وما يمكن له أن يتموضع فيه ويشتمل عليه من سمات لا ينقطع معها حبل الأجناسية قيد أنملة.
وإذا أردنا ان نحلل المقالة أيا كان نوعها فلن نختلف حول العناصر اللغوية المكونة لأسلوبها التي فيها وحدتها الاجناسية ومنها عنصر جوهري به تلحق العناصر الأخرى واعني به الفكرة أو الموضوع وما يلحق به من الصور والعناوين والامثال والسرد والتناص والحوار. وليس شرطا توفر هذه العناصر جميعها في المقالة الواحدة.
ولأن المقالة جنس نثري، تقتضي كتابتها تمرسا، به يتمكن الكاتب من معرفة خصائصها الأدبية من ناحية اللغة والحجم والتلقائية والأسلوب الخاص المميز الذي يعطي لكاتب المقالة شخصيته الخاصة فتكون المقالة دالة عليه ويعرف من خلالها أسلوبه وفيها تتجلى وجهة نظره مما نجده في مقالات كبار كتّاب المقالة العرب كإبراهيم المازني أو علي جواد الطاهر.
ولا فرق في تحديد خصائص المقالة وعناصرها بين أن تكون ذاتية أو موضوعية، بل المهم هو أن تؤدي الغرض المرجو من كتابتها وهو توسيع المدارك الجمالية والتنمية الثقافية والرصد النقدي للمشكلات الفنية والمجتمعية والتوعية الاجتماعية والاستنارة الحضارية والفكرية.
ومع انفتاح النص والتداخل النصي واتساع ميادين الشعر والسرد، صار للمقالة تقارب جمالي مع خصائص أجناس أخرى أعطتها سمات جعلتها ميدانا رحبا لكل أنواع الكتابة الابداعية كالقصة والرواية والمسرحية والسيرة والخطبة والرسالة والخاطرة وأجناس الشعر كالقصيدة العمودية وقصيدة التفعيلة وقصيدة النثر جنبا إلى جنب الخبر والتقرير والشرح والتعليل والإحصاء والتسجيل.
وبما يجعل المقالة جنسا يجمع مع نثريته التخييل السردي والشعري والتحليل النقدي والتوثيق التاريخي وبيداغوجيا الفكر والثقافة والصحافة والجغرافية والتشكيل وغيرها.
ويتم هذا التلاقي بين المقالة كجنس نثري وبين أجناس السرد الاخرى من دون أي انفلات في حدود قالبها ولا فقدان في حدية إطارها الأجناسي. والسبب إمكانيات المقالة في الاحتواء بعضا أو كلا من المضامين الأدبية وغير الأدبية وهضمها داخل قالبها لا بمعنى التداخل معها تداخلا يضيع معه حدها، وإنما هو التداخل الذي معه تكون الغلبة للمقالة بوصفها هنا الجنس الأقوى القادر على صهر الجنس المساند أو الثانوي في أجناسيته والانضواء في قالبه.
والمقالة في عناصرها وخصائص بنائها هي أكثر رحابة وامتدادا من القصيدة والقصة القصيرة والرواية والمسرحية والخبر الصحفي والتحليل النقدي. ولأن المرونة هي سمة قالبها، لذا يغدو امر قدرتها على الضم والصهر والاحتواء متحققا بدرجة أعلى من أي جنس سردي آخر، وهو ما يمنحها خصوصية(العبور) بكل ما يعنيه العبور من الظفر بالانتقال والغلبة في التحول والنجاة من التماهي بالتفوق في التجسير ثم الاجتياز.
ولا عبور أجناسياً من دون مرور بالتجسير الذي فيه تنتفي عملية التداخل وتتحول إلى عملية صهر وإذابة حدية، وتتبعها عملية الاجتياز التي بها تفقد الكتابات الأخرى هيأتها الأجناسية أو النوعية أو الشكلية منضوية في المقالة التي توصف حينئذ بأنها عابرة على الأجناس الأدبية الأخرى.
وليس متاحا لكل كاتب مقالة أن تكون مقالته ذات أجناسية عابرة تندرج في حديتها القطعية حدود قوالب النصوص المعبور عليها. وإنما أمر العابرية رهن بما يعيه كاتب المقالة من إمكانيات وما يرشده إليه حدسه وموهبته من طاقات تجعل كتابته قادرة على استنهاض كل الممكنات المتدارية في قالب المقالة الاجناسي. ولقد أفردتُ لهذا الموضوع مبحثا كاملا في كتابي(نحو نظرية عابرة للأجناس) وفيه تناولت مثالين تطبيقيين لكاتبين عراقيين؛ الاول هو الكاتب المعروف شمران الياسري(أبو كاطع) وسلسلة مقالاته المعنونة(بصراحة أبو كاطع) والآخر هو الشاعر إبراهيم الخياط في مقالته(تغريدة الاربعاء).
ومن كتّاب المقالة الذين تمثلوا هذه الممكنات الدكتور ضياء نافع الذي عبرت لديه المقالة على أجناس الشعر والسرد على اختلاف أنواعها فضلا عن أنواع الكتابات غير الأدبية كالمعلومة التاريخية والتقرير الصحفي والتحليل السياسي وغيرها. مما نجده في كتابه(دفاتر الأدب الروسي) بأجزائه الستة وسنخصص القول في الجزء السادس الصادر عن دار نوار للنشر ببغداد 2022 وفيه مجموعة مقالات يدور موضوعها حول الأدب الروسي عموما وأدب غوغول وبوشكين وماياكوفسكي وغوركي تحديدا فضلا عن ذكر بعض الأدباء والكتّاب الروس المحدثين ومنهم الشاعر ماركاريان.
والمميز في مقالات الدكتور ضياء نافع عن الأدب الروسي، هو جمعه النقد بالسرد من ناحية، والموضوعية بالذاتية من ناحية أخرى، متوزعاً بين المعلومة العلمية والخبر الصحفي والتوثيق التاريخي والمشاهدة اليومية والمفارقة الساخرة ومسائل أخرى تتعلق باللغة الروسية وتدريسها وطبعات أعمال قصصية وروائية معينة وغيرها، كاشفاً عن رؤيا النفس واستذكاراتها واعترافاتها ويومياتها، فمثلا جمع الكاتب في مقالة(رأيت غوغول في منامي) السرد بالتحليل النفسي وهو يحلل قصة الأنف لغوغول في شكل حلم رآه في المنام فتخيل نفسه تخاطب غوغول(كتبنا عنك أطروحة ماجستير في قسم اللغة الروسية بكلية اللغات في جامعة بغداد بإشرافي العلمي واستطاع منذر ملا كاظم تحقيقها وناقشتها بنجاح وسافر بعدئذ إلى روسيا وهناك حصل على شهادة الدكتوراه واصدر كتابا عنك بالروسية وهو أول كتاب عن غوغول بالروسية يؤلفه عراقي فهل يسرك هذا الخبر يا نيقولاي فاسيليفتيش ؟ فابتسم غوغول وقال: نعم نعم وبكل تأكيد انه خبر جميل جدا بالنسبة لي وأراد غوغول ان يضيف شيئا ولكني استيقظت من نومي ولم اسمع جملته الأخيرة) الكتاب،ص25ـ26.
وتشكل المذكرات دورا مركزيا في كتابة المقالة، وبها تَعبر المقالة على كتابة السيرة أو الرواية أحيانا وعادة ما يسوق مع كل ذكرى معلومة تاريخية أو مشاهدة يومية أو خاطرة طريفة أو مفارقة ساخرة أو معلومة فنية أو طرحا نقديا كما في هذا المقطع(لا زلت أتذكر قهقهات طلبتي في قسم اللغة الروسية بجامعة بغداد وتعليقاتهم عندما كنت أقرأ لهم مقاطع من هذا العمل الإبداعي المتميز لغوغول...) الكتاب،ص27
وفي مقالته المعنونة (شيء عن أنف غوغول) جمع بين ذكرى موقف مر به ذات يوم وهو يقدم محاضرة في مادة الأدب الروسي ففاجأه سؤال إحدى الطالبات هل غوغول مجنون؟ وبين خبر صحفي قرأه حديثا في جريدة(بعد مرور اكثر من ربع قرن عندما قرأت ما كتبه الصحافي محمد حسن المرزوقي بشان رواية انف غوغول..منذ ذلك الحين أي منذ الثلث الأول من القرن التاسع عشر والى حد الآن ونحن في العقد الثالث من القرن الأدبي الروسي آنذاك لم يركز على انف غوغول) الكتاب،ص28
وكثيرا ما يتداخل النقد والسرد بالمشاهدات اليومية فيربط أحداثا من القرن التاسع عشر بأحداث معيشة في يومنا هذا، من ذلك مثلا ربطه بين تماثيل الأنف لغوغول المتوزعة في أنحاء المعمورة وبين الطريقة التي بها تحوّل غوغول إلى مادة للصراع الروسي الأوكراني على أساس أن العاصمة كييف كانت موطن غوغول الأصلي.
وعلى الرغم من أن النقد يشكل الجزء الأكبر من مقالات د. ضياع نافع، معتمدا في ذلك على معرفته المعمقة بالأدب الروسي وخبرته الطويلة بالتعريب للأبحاث والكتب، فإن براعته السردية تجعل النقد مسرودا أو بالأحرى شعريا فيه تمتزج ذكرى هنا مع لقاء هناك وانطباع يتولد بجنب رأي يطرح بعلمية كما في مقالة(غوغول وسلفادور دالي) وفيها دالي هو الشخصية التي تتحاور مع الكاتب حول طبيعة أدب غوغول. اما المكان الذي فيه التقى الكاتب بدالي فهو معرض فني فيه تخيل شخصا يخرج من لوحات دالي فجأة فيسأله دالي غريب الأطوار ما الذي جاء بك إلى معرضي ؟ فيسرد الكاتب الأسئلة والإجابات التي دارت بينهما بطريقة مقالية لا يتغلب فيها النقد على السرد ولا السرد على النقد بل تتغلب المقالة التي تظل طاغية عليهما بقالبها الاجناسي العابر.
وعادة ما تقفل مقالات ضياء نافع بطريقة تعطي للفكرة وحدتها العضوية مكثفة الفكرة ومشوقة القارئ وفي الوقت نفسه تقدم له مادة غنية فيها يجد النقد والسرد والشعر والتاريخ والفكر. ومن النهايات المعهودة في مقالاته هي إفاقته من حلم كان قد غلب عليه على شاكلة قوله:(..أراد ان يضيف شيئا إلا إن جرس المنبه اللعين أيقظني من نومي) الكتاب، ص36
والميزة الأخرى التي تجعل المقالة عند ضياء نافع عابرة للأجناس الاخرى، هي أنها نابعة من رؤية عالمية للأدب تتجاوز النظرة المقارنة الى مفاهيم التعدد الثقافي والانفتاح الحضاري مما كان غوته قد عبّر عنه بمفهوم الأدب العالمي وأهميته في مواجهة الاختلاط الثقافي الذي تحدثه الحروب البغيضة والصراعات المتبادلة. يقول هومي بابا:(إذا ما كان سعينا هو أن نجعل الأدب عالميا فلعل ذلك في فعل نقدي يحاول التقاط خفة اليد التي يبديها الأدب في تلاعبه بالخصوصية التاريخية مستخدما أداة الارتياب النفسي أو المسافة الجمالية)(موقع الثقافة، ص60) ولقد تحققت هذه المسافة الجمالية في المقالة العابرة عند ضياء نافع بالتعددية الثقافية التي بها يجمع بين كاتب روسي وكاتب عراقي أو يقارن قصة أو رواية روسية برواية عربية فمقالة (ثرثرة فوق الفولغا) يتماهى سردها الشعري والتاريخي مع رواية ثرثرة فوق النيل لنجيب محفوظ.
ويسوق الكاتب ضياء نافع الفكرة التعددية من خلال شخصية فلان الفلاني الذي يشكك في نوايا الكاتب متحيرا كيف يمكن له أن يمارس هذا العمل المنظم في الكتابة عن الأدب الروسي على مدى طويل وبوتيرة واحدة.. وتنتهي المقالة وقد تبين أن تلك الشكوك مجرد ثرثرة.
وتدور مقالة(غوغول وفيصل لعيبي) حول عالمية الإبداع وأن لا فرق في الإبداع بين القص والتشكيل كما لا فرق فيه بين الجنسيات والأعراق والهويات. فأما القصة فبورتريه لغوغول وأما التشكيل فلوحة للفنان فيصل لعيبي فيها بائع وعنده أصناف من الفواكه. ويؤدي التخييل الشعري دورا في الكتابة المقالية اذ يخرج من البورتريه شخص حي ليتحدث مع الفنان ثم يدور حديث عن الواقعية الانتقادية(فغوغول أيضا يمزج عناصر واقعية مع بعضها البعض ويرسم لوحة خيالية مدهشة الجمال ولكن أساسها يبقى واقعيا) الكتاب، ص42
وكثيرا ما يجد القارئ في المقالة العابرة كل ما يريده من إيقاع شعري وتخييل سردي وحوار مسرحي كما في حوار الكاتب مع جارته وحواره مع تولستايا ابنة حفيد تولستوي كما يجد القارئ أيضا شروحا نقدية وأخبارا أدبية عن الأدب الروسي من قبيل اسماء المجلات والصحف وأسماء الموسيقيين والتشكيليين وآخر الإصدارات الروسية الحديثة مثل كتاب(الأدب الروسي والعالم العربي) للمستشرقة الميرا علي زاده 2020 وقدم معلومات نقدية وترجمية وتاريخية فذكر مثلا أسماء مترجمي الأدب الروسي الراحلين كسامي الدروبي وحياة شرارة ونجيب المانع ومحمود احمد السيد وعلي الشوك وأكرم فاضل ومحمد يونس.
ويخيل إلي أن هذه الروح الانفتاحية عند الكاتب نابعة من رؤية عبر ثقافية عولمية، تجعل مقولة الشاعر فوزي كريم، منطبقة على كتاب(دفاتر الأدب الروسي). والمقولة هي إن(الكتب تنطق فقط حين تخترق رمزية حروفها وصلابة ورقها وأغلفتها إلى الكائن الحي في قارئها أو إلى أي كائن يدب مجهولا في أركان الحياة الواسعة) (تهافت الستينيين، ص157) وبهذا الشكل يعطي كاتب المقالة للقارئ دورا مركزيا فلا يشعر بغرابة الحضارات وقلق الحدود ما بين الثقافات والأمم والهويات والعوالم واستكشاف اللحظات، بل هو قارئ فاعل ومحوري يمتلك القوة التي تؤهله للتعاطي مع التعددية الثقافية والتضامن الجماعي من منظور بيني يجمع بين ثقافات قومية ومحلية وينتقل بين موروثات تاريخية.