سيغيب الشاعرُ طويلاً، ففي الأرض متسع لجسد أنهكته الغربات. ونحن نواري مظفر النواب، الشاعر، في وادي السلام نتذكرُ ما قاله الشاعر خوان خيلمان في مراسيم دفن الروائي البرتغالي (1922-2010)
صاحب نوبل خوسيه ساراماغو :» كيف بوسعنا أنْ نملأ بك الحفرة التي لا نهاية لها». منذ خمسينات القرن الماضي كان الشاعر مظفر قد التراب العراقي الى درجة القداسة، ففي (الريل وحمد) كتابه الشعري الاهم كتب يقول:» ما أظنُّ أرضاً رويت بالدم كأرض بلادي».
لم يخلق شاعر عربيٌّ حديثٌ اسطورته مثلما خلق مظفر النواب اسطورته، فقد تسلل، وبعبقرية لا نظير لها من عراقيته الشيوعية الى عربيته القومية، حتى لتبدو صورة المهراجا الهندي، التي تلصق بنسبه باهتة، لا قيمة لها، ولم تفلح مزاعم السلطة البعثية في تجريده من جنسيته العراقية بشيء، فظلت بلا معنى أيضاً. ولعل أغرب ما يمكننا تقفيه في سيرته أنه الشاعر الوحيد الذي وصل الى قراء العربية عبر قصائده الشعبية، ذات الخصوصية المعروفة، وبعبقرية فريدة تمكن من تسويق الحياة والأحاسيس والشعر العراقي الى القارئ العربي، عبر خيط شفيف، نسج منه بساطاً لغوياً، ومعجماً غير مسبوق، جمع فيه فطرة الانسان والحب التضحية والمرأة الى جانب الموقف الوطني الشريف.
قرأتُ عند بعض العرب، ممن ما زالت أهواؤهم مع نظام صدام حسين، أو تحايثه بشعور قوميّ ميت، ما معناه بأنَّ مظفر النواب لم يرفض إحتلال بغداد، وأنه عاش متنعماً في كنف بعض الحكام العرب، أو أنه بحس طائفي شيعي.. وفي هذه وتلك جنايات واضحة على سيرته شاعراً كبيراً ومثقفاً نوعياً، غير مدركين بأنه انسان قبل كل شيء، وأنَّ ما عانى منه لم يكن سهلاً، فهو الذي تجرّع الغربة لأكثر من نصف قرن، ولم يرَ بلاده إلا بمروره محمولاً على اكتاف مشيعيه، وأنَّ الحكام الذين تقربوا منه إنما كانوا يتقونه قبل كل شيء، أو أنهم يلمعون صورهم بالتقرب هذا، وهو يعيش غريبا متغرباً في بلدانهم، وأيُّ طرد له يعني إعادته الى بلاده التي حكمت محاكمها بالاعدام عليه.
إذا كانت شهرة مظفر النواب متأتيةً من قصائده السياسية، التي هاجم فيها الحكام العرب من المحيط الى الخليج، ورددها ملايين العرب في عقدي السبعينات والثمانيات، فقد فعل ديوانه للريل وحمد ما لم تفعله قصائده تلك في ذات العراقيين، فهو كتاب روح النفس العراقية، حتى لتبدو حداثة الشعر العراقي(فصيحها وعاميتها) مدينة له، وهو تعويذة ثقافية، ومثابة يسعى لها كل مثقف. ولعل السؤال الأهم هنا هو كيف تمكن الشعر العاميّ، المكتوب بلغة أهل الجنوب والاهوار من روح كل عراقي، وبمَ استطاع الشاعرُ تسويقه الى عامة العراقيين، على اختلاف لهجاتهم وانتماءاتهم وميولهم.؟
إذا كان الشيوعيون قد قدموا النواب بوصفه العلامة الفارقة في نضالهم وثقافتهم فلم يتمكن القوميون والبعثيون وسواهم من العراقيين من كراهيته أو جعله خارج عنايتهم، فهو الشاعر الوحيد الذي يحبُّ شعره ومواقفه الاغنياء والفقراء، الشيعة والسنة والاكراد وغيرهم .. وإذا كان التشرينيون قد رددوا مقاطع من قصائده في يوم تشييعه فالجلادون اليوم يحفظون قصائده ايضاً. في الختام نقول: لم يجتمع العراقيون على أحدٍ كاجتماعهم يوم تشييعه. فهو الشاعر الذي يحتفظ كل بيت عراقي بنسخة من كتابهللريل وحمد.
طالب عبد العزيز