عبد المنعم الأعسم
بعض مظاهر السلوك الفئوي الاستفزازية، وقبل ان تصبح عامة شاملة، تثير الاسئلة عن مصادرها وخلفياتها المجتمعية اكثر مما تثيره من الغضب حيال نتائجها واخطارها في حال صارت سلوكا مرخصا له، او مسكوتا عنه.
يقال ان هذه المظاهر افراز من افرازات التطرف والعنف، وان الجينات مصدر لـ «اصالة» هذا الانحراف في ثقافتنا وسلوكنا، ويبدو ان شيئا من هذا صحيح، معبرٌ عنه في تزايد مثل هذه «الانحرافات» وفي محاولات الهروب من الحلول الواقعية لمشاكلنا الى نقيضها، الخرافة.. العنف.. القبلية.. الخ كما يتجلى ذلك في «طفرات» اجتماعية حدثت في امزجتنا في مجرى الاحداث. في هذا يذكر الطبري ان سلطانا قرر بناء مسجد له في دمشق فأمر ان يأتيه كل رجل (من سكان المدينة والمقيمين فيها) بلبنة واحدة، ففعلوا، إلا عراقيا كان يأتيه بلبنتين.. فقال له السلطان: «يا أهل العراق، تفرطون في كل شيء، حتى في الطاعة».
مرات مثلا، نشعر بالرضا عن سقوط 4 ضحايا في تفجير مقابل 45 ضحية سقطوا قبل ايام، اما تقارير الامم المتحدة الدورية عن الاحوال الامنية في العراق، فان عبارة «تراجع اعداد الضحايا في الهجمات الارهابية» تثير فينا نوعا من الارتياح، ولا يعني ذلك غير نوع من التعايش مع الموت. (حميد جا) شاعر من سراييفو كان يردد في فزع من مشاهد الجثث: «كم هو غير لائق، وكم هو سخيف، ان نقارن بين درجات العنف واعداد الموتى».
في كل الاحوال لا نستطيع القول بان الجينات بريئة تماما من عصبيات العنف والتجييش الكامنة في الذات العراقية، في ظروف تتسم بالاضطراب والنزاعات والتدخل الخارجي واعمال الارهاب، لكن الكثير من المعاينات توصلت الى حل وسط يميز بين تأثير الجينات وتأثير البيئة، وهو ما توصلت اليه بحوث جديدة قللت من مكانة الجينات في سلوك الانسان، واعطت للبيئة دورا في جملة مكونات الشخصية، من دون ان يحسم العلماء الاولوية في التأثير بين الجينات والبيئة.
دراسة نشرت منذ حوالي عقد من السنين في مجلة «المراهقة» الامريكية لفريق من العلماء، ربطت بين السلوك العنفي للفرد وبين المواد الكيميائية العصبية في الدماغ، وقد وجد أن لها تأثير على «الشخصية» - خاصة اثرها المباشر على القوى العقلية - مثل القلق والاكتئاب والانفصام. والحقيقة ان مناصري المؤثرات الجينية في تحديد السلوك البشري قد وجدوا في مثل هذه النظريات ضالتهم واعتقدوا ان مصدر كل السلوك البشري لا بد ان يكون جينيا وراثيا.
لكن الباحثة «ماريام فيرد» في العام 2010 نفت صحة هذا الاستنتاج واعلنت بهذا الصدد أن دماغ الإنسان والشمبانزي يكونان بنفس الحجم عند الولادة. وان دماغ الشمبانزي ينمو بنسبة 28% عند سن البلوغ، بينما ينمو دماغ الإنسان بزيادة تقدر بنسبة 300%, وهذا يعني ان معظم اجزاء ادمغتنا تنمو وتكبر بعد الولادة وان البيئة هي المسبب لذلك.
والحال، فان العنف الذي ضرب مجتمعنا بحاجة الى دراسات متخصصة، وفي كل الاحوال، ينبغي ان نتعلق بامل انحسار الارهاب وتحسن الظروف البيئية لكي تعود النفوس الى مربع التعايش الذي صار السياسيون يسمونه «توافقا» وهو لا يمت لهذه القوانة بصلة.
استدراك:
«يوجد ثـلاثة انواع من الاكـاذيب: الاكـاذيب والاكاذيـب اللعـينة.. والاحصائيات».
طُرفة مترجمة