لطفية الدليمي
لاأظنُّ أنّ الكاتب الراحل بورخس جانب الصواب عندما أشار إلى قناعته بأنّنا « نقرأ مانرغبه ونكتب مانستطيعه». الترحّل بين حدود الرغبة والاستطاعة يبدو لي حقيقة نعيشها وبخاصة لمن اتخذ – ولن أقول إمتهن - شكلاً من أشكال الكتابة أسلوبا حياتياً له أو مَعْلَماً من معالمها الأساسية.
كلّ كاتب هو قارئ بالضرورة. لايهمُّ إن كان (بلدوزراً) للقراءة أو قارئاً عادياً. هو يقرأ مايرغب فيه وحسب. مامِن كاتب حقيقي لم يتفنن في ضروب القراءة؛ لكن ليس كلّ قارئ كاتباً ولاينبغي أن يكون الأمر هكذا. أسباب كثيرة تقف وراء هذه الحقيقة.
الكتابة أعسرُ من القراءة بالتأكيد. القراءة فعلٌ منقاد بقرار شخصي دافعه الاساس هو الرغبة في قراءة هذا الكتاب أو ذاك. ثمة ملايين الكتب المتاحة للقراءة في يومنا هذا وبخاصة في عصر القراءة الألكترونية الذي جعل من التحسّر على قراءة كتاب ما ذكرى مطوية في غياهب النسيان. نحنُ نختارُ الكتاب الذي نريد قراءته بحسب إعداداتنا المسبقة:من يشأ قراءة الروايات والاكتفاء بها فلهُ ذلك، ومن يشأ قراءة كتب التقنية أو الفلسفة أو الاقتصاد أو السياسة أو الاجتماع فله ذلك أيضاً. أنت في النهاية تختارُ الكتب التي تسعدك لأنها تتوافق مع إعداداتك المسبقة، ولاأظنُّ أنّ أمراً ما في هذا العالم يمكن أن يُجبِرَ أحدنا على قراءة مالايرغبه إلا في حدود ضيقة للغاية يمكن تجاوزها فيما بعد. في القراءة أنت الفاعل الأكبر. أنت من تحدّدُ الكتب التي تختارها اختياراً يتوافق مع ذائقتك ويحقق انتشاءك العقلي والنفسي. لاكتابَ عصيٌّ على القراءة أمامك متى ماامتلكت الاعدادات اللازمة لقراءته.
الحالُ مع الكتابة مختلفٌ تماماً. مناسيبُ الحرية المتاحة لك مع القراءة تتناقصُ وتضيق لسبب جوهري: أنت عندما تكتبُ تتطلعُ لمثابة عالية تسعى لبلوغها وماأنت بالغها مهما فعلت. تبدو هذه الحقيقة مثل إحدى القوانين الغريبة في نظرية الكم. لاأظنُّ أنّ كاتبة أو كاتباً إنتهى من تأليف كتاب ثمّ جلس يترنّمُ بما صنع معتبراً إياه تحفته الكاملة النهائية. كلّ انتهاء من صناعة كتاب إنما هو إيذانٌ بولادة فكرة كتاب جديد بما يشبه التركيب الهيغلي الديناميكي الذي ينتِجُ أشياء جديدة متفوقة نوعياً على تلك القديمة؛ لكن يتعسّرُ صنع الجديد من غير معونة القديم. قد تعيدُ الصياغة هنا وهناك في كتاب تعملُ عليه، وتضيفُ مواد وتحذف أخرى، تقتنعُ بقائمة محتويات ثمّ تعيدُ ترتيبها لأسباب مستجدة، تنقحُ وتصقلُ وتشذّبُ ثمّ تقتنعُ في نهاية الأمر أنّ فعل التنقيح والتشذيب والاضافة بات عسيراً على الكتاب الذي بين يديك ولابد من التفكير بكتاب جديد.
في القراءة ومن خلالها يمكنُ أن نُسعد بمعاينة (القمم) الفكرية التي بلغها بعضُ بني البشر. سنتوقفُ كثيراً عند قراءة عبارة أو حتى مفردة. سنعيدُ قراءة بعض الفصول مرات ومرات، وقد نضيفُ الكتاب إلى قائمة الكتب التي ساهمت في تشكيل عقولنا وأرواحنا ثمّ نعيدُ قراءتها بين حين وآخر مثلما نفعلُ مع المسرحيات الشكسبيرية أو بعض أعاظم مؤلفات عصر النهضة أو كتابات أكابر ناثرينا العرب. القراءة في النهاية سعيٌ وراء الكمال الذي نلمحه في الآخرين وليس فينا. أما الكتابة فهي مطاردة لمثال بعيد (ترانسندنتالي) نراه غير واضح الملامح، وليس في مستطاعنا سوى محاولة الاقتراب منه؛ ولكن توجد حدود للإقتراب لانستطيعُ القفز عليها أو إلغاءها.
نحنُ في العادة نُقبِلُ على القراءة منشرحي الصدور ومنتشين بلذة التوقّع القادمة ؛ أما كلّ من شرع في الكتابة فيعرفُ حجم التشوّش الفكري الذي يعانيه: كيف يبدأ؟ لحظة البداية هذه مخيفة وعسيرة ؛ لأنها ستحدّدُ كلّ المآلات اللاحقة.
التأرجحُ بين الرغبة والاستطاعة، بين ماترغبُ في قراءته وماتستطيع كتابته، هو أحد الحقائق اليومية في حياة كلّ كاتب حقيقي. حَسْبُهُ أن يتلذذ بما يرغبُ في قراءته، وأن تظلّ أنظاره متطلّعة لتلك القمم العالية التي يراها شاحبة غير واضحة المعالم من بعيد، وليس له من خيار سوى الصعود إليها في رحلة سيزيفية لانهائية.
بورخس كاتب حقيقي إشتغل دوماً في قلب الأتون الكتابي المشتعل ؛ ولأنه كذلك فقد نقلت عبارته حقيقة جوهرية في هذا العالم.