ستار كاووش
كنتُ منشغلاً بترتيب الباحة الخلفية للبيت، مستمتعاً بهذا اليوم المشرق ومفكراً بكيفية تحضير متعلقات عطلة نهاية الأسبوع، وإذا بجارتي ترتقي سياج الحديقة الخشبي الذي يفصلنا، وتطلُ برأسها قائلة (ستار، لدينا جلسة صغيرة لتذوق النبيذ هذا المساء،
إن كان لديك وقت ومزاج لذلك، فرائع أن تكون بيننا) ثم أكملتْ قبل أن أجيبها (سيحضر مجموعة من الأصدقاء والصديقات، كذلك خبير النبيذ المتخصص الذي إتفقتُ معه على كل شيء). لا يمكن أن أرفض مثل هذه الدعوات، لذا أخبرتها بأني سأحضر بالتأكيد، وسأدخل من باب الحديقة الخلفية حيث تكون الجلسة في الهواء الطلق. إقتربَ الوقتُ من الخامسة مساء حيث الموعد المتفق عليه، وقد تناهى لي حديث الضيوف من خلف السياج، فخرجتُ من الباب الخلفي للبيت وعطفتُ نحو حديقة جارتي. رَحَّبَ بي الجميع، ثم أخذتُ مكاني على واحدة من الطاولات التي تداخلت مع بعضها بطريقة بدت غير منتظمة لكنها تتيح تواصل الجميع مع بعضهم البعض. مرَّتْ بضع دقائق حتى حضرَ رجل النبيذ يسحبُ عربة صغيرة مليئة بقناني النبيذ، وأعطى لكل واحد منا ورقة، طالباً منا تسجيل إسم كل نبيذ نتذوقه، ثم نكتب مقابل الإسم كلمات محدودة، نوع الإحساس الذي نشعر به بعد إرتشاف جرعة النبيذ، ونخمن أيضاً إن كان هناك نوعاً من الفاكهة أو العطور التي أضيفت للنبيذ عند صناعته، ونكتب إن كانت هذه النوعية من النبيذ، قوية، خفيفة أم متوسطة (حسب أنواع النبيذ الثلاثة المعتادة غالباً) وإن لم ينجح أحد بالتوصل لذلك، فليكتبَ أي شيء يخطر في باله، بمعنى يسجل إنطباعه السريع الأول ببضعة كلمات. وقال بأننا سوف لن نتخلص من النبيذ بعد تذوقه كما يقوم بذلك متذوقي النبيذ عادة، بل سنحتسي كل ما نتذوقه، شرط أن نشربَ بين كل نوع وآخر، جرعة ماء كي لا يختلط طعم النبيذ ونفقد إحساسنا بالإختلاف. تحمستُ تماماً للموافقة على رأيه، خاصة فيما يتعلق بعدم التضحية بجرعة النبيذ غالي الثمن (رغم أني قد خبرتُ بعض النهايات لمثل هذه الإقراحات). هكذا بدأ يدلق أو نبيذ للتجربة، فيما إنتهت الجارة من وضع أكلات صغيرة على الطاولات مع بضعة ألواح خشبية (تختات) إمتلأت بقطع مختلفة من الجبن. بعد إنتهائنا من القدح الأول، تناسينا القواعد والتعليمات مثل تلاميذ المدرسة، وأخذنا نتلفتُ نحو بعضنا متسائلين بكلمات مثل، ماذا تشعر؟ هل وجدتِ شيئاً؟ هل تمكنت من الإمساك بطعمهِ؟ ليطلب منا الرجل المتخصص أن لا نتحدث كثيراً مع بعضنا حول الموضوع، وأن نفكر مباشرة بما حدث عند تذوقنا النبيذ والكتابة مباشرة، وهكذا اندلقت الأقداح واحداً بعد الآخر، والرجل يجتهد ويشير إلينا أحياناً بأن هذه النوعية تتطلب هذا النوع من الجبن أو هذا النبيذ الجاف يتلائم مع تلكَ القطعة من السمك المدخن، وغير ذلك مما توفرَ على الطاولة العامرة. وهكذا تناوبت الأقداح، وكل جرعة نبيذ تعقبها جرعة من الماء للتهيؤ للجرعة القادمة. مرَّ جزء من المساء بين تفاعل ونقاشات ومحاولات للإمساك بنوع النشوة، هذا يكتشف شيء وتلكَ تقول رأي، وثالث يتلمظ مستمتعاً بإنتظار النبيذ التالي. كنتُ أنظر الى الوجوه المتوردة وصاحب النبيذ يعرض بضاعته التي يرى إنها إستثنائية، والكل مغمورون بعطر النبيذ والإكتشافات المفاجئة التي لا تخطر على بال. كان هناك نوع إسمه شاردونيه، شعرتُ بأنه الأعظم من بين كل الأنواع، لذا كتبتُ إسمه بذيل الورقة لأعود اليه عند نهاية الجلسة. ومع مرور الوقت، بدأنا لا نعير إهتماماً كبيراً للرجل، وقد دبَّ نوع من الخدر على الوجوه المسترسلة، وطالت الأحاديث، بل إستطالت القصص وتمددت الآراء وكإنها قطعة مطاط، وتداخلت الإكتشافات حول هذا النوع وتلك الجودة، بين التأثير والنشوة. إقتربنا من الجرعات الأخيرة فتناسلت الأحاديث أكثر، ونسينا أمر الرجل تماماً، ثم نسينا حتى النبيذ، وصرنا نمسك الأقداح كمن يقوم بشيء روتيني. لا أتذكر متى دلقَ لنا القدح الأخير، لكني تيقنتُ من حدوث ذلك حين رأيته يلملم القناني الفارغة ويضعها في العربة، ويعزلَ القناني التي بقي في قعرها بعض النبيذ، ثم توقفَ وسط الطاولات وأخذ ينظر إلينا نظرة تشبه نظرة بطل فيلم (العطر) الذي يتطلع الى الناس الساهمين والمأخوذين بالعطر بنظرة فيها الكثير من السطوة والغواية. قبل النهاية بلحظات ومع ما تبقى من ذاكرة وسيطرة، حجزَ كل منا ما يحتاجه من نبيذ غالي الثمن، بإنتظار أن يصلنا بعد يومين، وكانت حصتي صندوقاً من الشاردونيه. لملم الرجل النبيذي كل ادواته وأغلقَ عربته الصغيرة وسحبها ليضعها في الشاحنة خاصته، والتي أوقفها أمام البيت. وَدَّعنا الرجل، وقبلَ أن يخرج، أوقفته جارتي وسلمته الثمن المتفق عليه لمثل هذه الأمسية، وبعد قليل سمعنا صوت الباص وهو يتحرك مبتعداً، فيما عُدنا نحن لنكمل السهرة من نبيذ الجارة التي حسبت حسابها لمثل هذه التطورات، حيث قالت (هناك ما يكفي تحت الفلين) وهو مثل يقصد به الهولنديون إن هناك الكثير من قناني النبيذ التي لم تُفتح بعد. إستمرت الجلسة مع هؤلاء (الأصدقاء) الى منتصف الليل، والرائع في الأمر هو عدم حاجتي للإتصال بتكسي للذهاب الى البيت، فأنا أرى من مكاني زهور حديقتي وهي تعلو السياج. في النهاية، ودعتُ الجميع بصوت بدا مرتفعاً، وخرجتُ من الباب الخلفي بإتجاه حديقتي، أضحك وأردد أغنية غَيَّرتُ بعض كلماتها ووضعت بدلها كلمة شاردونيه، وسط ضحك الجيران وصوت الأقداح على طاولة الجارة.