ثائر صالح
ضياع الأعمال الموسيقية أمر يحدث في الكثير من الأحيان. الحديث هنا عن ضياع الأعمال الموسيقية الأوروبية بمعنى ضياع أو تلف المدونة الموسيقية أو نسيانها،
أما عندنا في الشرق الذي لم يصل مرحلة التدوين الموسيقي فالحفظ الشفاهي ينقل الأعمال الموسيقية بشكل أو بآخر، مع أن هذا الشرق هو نفسه الذي سبق كل البشرية في التدوين والكتابة.
نتذكر هنا ضياع معظم أعمال أحد أرقّ مؤلفي عصر الباروك، فيليب هاينريش أرلباخ (1657 - 1714) في حريق المكتبة التي ضمت مدونات أعماله سنة 1735، فلم يبق من حوالي 1000 عمل من أعماله سوى 70 لأنها طبعت في حياته. كما أختفت بعض أعمال باخ الكبير بسبب توزيع تركته بين ورثته الذين لم يحافظوا عليها كلهم، منها عدد كبير من الكانتاتات. الأمر مختلف في حالة واحد من أعظم مؤلفي العصر الكلاسيكي، فرانس يوزف هايدن (1732 - 1809) فقد حفظت معظم أعماله مع استثناءات قليلة، منها كونشرتو للتشيلو والأوركسترا في دو الكبير. ألّف هايدن هذا العمل لزميله في فرقة الأمير أسترهازي عازف التشيلو البافاري - النمساوي يوزف فرانس فايغل (1740 - 1820)، وضمّنها مقاطع صعبة تتناسب مع قدرات هذا العازف. لكن العمل أختفى تماماً قرابة قرنين من الزمان، حتى عثر الباحث التشيكي أولدجيخ بولكرت سنة 1961 على مخطوطة في المكتبة الوطنية التشيكية في براغ تعرّف فيها على هذا العمل، فالخط اللحني الأساسي للحركة الأولى من الكونشرتو كان مدوناً في أقدم مصدر يصنّف أعمال هايدن هو فهرس أنتفورت (حوالي 1766)، وهو مطابق تماما لما هو موجود في المخطوطة التشيكية.
كتب هايدن الكونشرتو بين 1761 - 1765 أي في نفس الفترة التي كتب فيها أولى سيمفونياته، رقم 6 و7 و8 وهي سيمفونيات من ثلاث حركات لكنها مع ذلك تحمل بصماته المعتادة في سيمفونياته الناضجة. استعمل فيه أوركسترا الوتريات مع أداتي أوبو وأداتي هورن فقط، وقتها كان مساعداً لقائد فرقة الموسيقى في قصر أسترهازي غريغور فرنر حتى وفاة الأخير في 1766، عندها أصبح هايدن قائد الفرقة.
لم يكن شكل العمل كلاسيكياً بعد، فالشكل الكلاسيكي للكونشرتو طوره موتسارت في ثمانينات القرن الثامن عشر. مع ذلك جاء عمل هايدن المبكر هذا بملامح جديدة تتميز عن الشكل المستعمل في آخر عصر الباروك، فقد استعمل قالب السوناتا في كل من الحركات الثلاث، وقالب السوناتا هو القالب الأساسي الذي اعتمده هايدن لبناء أشكال السيمفونية والرباعي الوتري، وهما أكبر منجزاته.
الحركة الأولى معتدلة السرعة تليها حركة بطيئة فثالثة سريعة، بخلاف شكل الباروك المعتاد (سريع بطيء سريع).
حاز العمل على شهرة واسعة فور تقديمه في ستينات القرن الماضي، وأصبح من الأعمال المحببة لعازفي التشيلو لجماله وصعوبته النسبية. هناك الكثير من التسجيلات التي قدمها كبار عازفي التشيلو مثل ميستيسلاف روستروبوفيتش وجاكلين دو بريه ويانوش شتاركر ومؤخراً ميشا مايسكي ويو يو ما وستيفن إيسرليس وكيان سلطاني.