ستار كاووش
حين أتجول في طرقات المدينة التي أعيش فيها أرى شاحنات صغيرة تتوقف هنا وهناك، مكتوب عليها (الأخضر يجلب السعادة) ومهمتها الإهتمام بالحدائق والمتنزهات والمساحات الخضراء، تُقَلِّمَ هذه الأشجار وترتب تلك الزهور وتجز عشب الحدائق التي إمتدت في كل المكان.
أنظر الى المساحات الخضراء فينتابني شعور بالراحة حقاً، وهذا إنعكس أيضاً على لوحاتي التي غلب عليها اللون الأخضر ودرجاته المتعددة، وكلما أنتهي من رسم لوحة جديدة ثم أتطلع الـى الون الأخضر الذي يحيطني من كل جانب، أشعر بالهدوء والرضا. فالخضرة والسعادة مثل جانبي سكة قطار يسيران معاً جنباً الى جنب، هذا ما تقوله الحدائق بلغتها الخاصة وما يشير اليه العشب وهو يلتمع بلونه اليانع تحت أشعة الشمس. وقد أثبتتْ الكثير من الدراسات إن اللون الأخضر لون مهدئ للغاية ويجلب السعادة فعلاً، وإن الكثير من الناس يشعرون بالتحسن في بيئة خضراء، والمناطق التي فيها مساحات خضراء واسعة، يكون لها تأثير حتى على القوة الذهنية للناس. ألم يكن الربيع رمزاً للشباب والحيوية؟ حيث تنبثق أوراق النباتات بتدرجات الأخضر وتتصاعد أمامنا كل يوم، فكل ورقة خضراء من هذه الحديقة أو ذلك الممر المورق، لها تأثير على روح الإنسان ونفسيته. أما إذا إمتزج الأخضر مع زهور صفراء وحمراء وأرجوانية وبيضاء فتكون النتيجة قارورة طبيعة من عطر سماوي. الأخضر وتدرجاته هو اللون الذي يداهمنا غالباً في الطبيعة وهو الوجه الآخر لجمالها، ولا طبيعة دون الأخضر وتناغماته المختلفة، لذا علينا أن نحب الطبيعة ونكمل جمالها، علينا أن نتآلف معها ونشكر عطاياها التي تتجدد وتجددنا معها.
لكن من أين يأتي هذا التأثير الإيجابي لِلَّونِ الأخضر؟ الأمر ببساطة هو إن الإنسان طوال حياته على هذه الأرض والتي إمتدت لمئات الآلاف من السنين لم يرتبط بغير الطبيعة، حيث كان جزء منها، يتلحف بالأشجار ويعيش بينها، يأكل منها ويتطبب بها، ويعوِّلَ على عطاياها ويشترك معها بالحلول التي تسهل عليه حياته، هكذا عاشت آلاف الأجيال قبلنا في أحضان هذه الأم التي نسميها الطبيعة. وقد إنحسرَ هذا الإنسجام مع الطبيعة -مع الأسف- بعد أن بنى الإنسان المدن والشوارع والبيوت التي نعرفها اليوم. وهكذا ساهمت هذه المدن المزدحمة على علاقتنا بالطبيعة. وهذا ما يفسر بإعتقادي راحتنا النفسية حين نعود الى طبيعتنا الأولى ونكون في أحضان هذه الأم التي لم تنسَ أبناءها، لكننا نحن الذين نسيناها وسط زحام الحياة العصرية والعمل والعيش وسط الجدران الكونكريتية. لذا فشعورنا بالتناغم والطمأنينة مع الطبيعة هو نوع من العودة الى منزلنا الأول الذي نشأ فيه أجدادنا.
لقد أثبتت إحدى الدراسات إن ٩٣ بالمائة من البستانيين يشعرون إن لعملهم تأثيراً إيجابياً على مزاجهم، وهناك دراسة أخرى تقول، إذا كنتَ تعمل أربعين دقيقة في تشذيب حديقتك، فستزداد سعادتك ويقل توترك، والكثير من الدراسات التي تضع هذه التفاصيل التي تتعلق بالخضرة والحدائق في حساباتها. وفي بريطانا هناك ما يسمى بالعلاج البيئي، والذي يدور حول علاقة البستنة واستخدامها مع الأشخاص الذين لديهم شكاوى من الإكتئاب والقلق، ودائماً ما كانت النتائج مذهلة. وفي اليابان هناك الكثير من الناس يقومون بالإستحمام في الغابات، لأن لذلك تأثير على نفسياتهم.
تُعرفُ هولندا كونها بلداً أخضراً مثل حديقة واسعة، مع ذلك لم يكتفِ الناس بذلك، ولم يتوقفوا عن زراعة الأشجار، حيث أُفاجأ كل يوم تقريباً بسيقان الشجيرات الجديدة التي يزرعها موظفو البلدية هنا وهناك، مع هذا لم يكتفوا بذلك، حيث لاحظت البلدية إن مجموعة من الشوارع المتقاربة تحتوي على أشجاراً قليلة، لذا زرعوا فيها هذه الأيام ألف شجرة جديدة، لكن المشكلة ظهرت حين أخذ الناس يتجولون بين هذه الأشجار ولا يسمعون أصواتاً لعصافير أو طيور، لأنها لم تبنِ أعشاشها بعد على هذه الأشجار الجديدة، لذا ثبتت البلدية على كل شجرة جهازاً صغيراً بحجم كف اليد، يبث أصواتاً لعصافير مختلفة الأنواع، كي يبدو المشهد طبيعياً، الى أن تأتي العصافير وتبني أعشاشها.