أ.د. ضياء نافع
اتابع طبعا (وحسب امكانياتي المتواضعة) الكتابات العربية حول الادب الروسي دائما , و أنا سعيد جدا بتوسّع تلك الكتابات وتعمّقها وموضوعيّتها بشكل عام مقارنة مع واقعها الذي كان في القرن العشرين ,
وخصوصا في بدايات النصف الثاني من ذلك القرن , عندما كانت سائدة في تلك الكتابات النظرة السياسية الضيّقة والساذجة و(المعلّبة!) ان صحّ التعبير , سواء من قبل اصدقاء الادب الروسي (سياسيّا !) او المعادين له (سياسيّا ايضا !) , اذ كان الادب الروسي آنذاك (عملا سياسيا بحتا !) ليس الا. الا اني – وللأسف - (اصطدم بالمعنى المباشر وغير المباشر !) بعض الاحايين – ولحد الان - بمجموعة من المفاهيم و التعابير غير الدقيقة (بلغة الدبلوماسية طبعا , اذ يجب استخدام صفات اخرى حتما حول ذلك !!) , وعندما (اصطدم بها !) , أقول (بيني وبين نفسي وانا احاول تبريرها) , ان هذا التعبير او ذاك حدث بشكل عابر ومتسرّع , او , ان هذا المفهوم لن يتكرر لاحقا في الدراسات القادمة لنفس هؤلاء الكتّاب, او , انه ربما خطأ مطبعي فقط , او , من المحتمل انه سهو ليس الا , او... , أو... الخ , ولكني بدأت الاحظ – ومع الاسف والاسى - تكرار هذه التعابير هنا وهناك (وبعض الاحيان عند اسماء ليست مجهولة من الباحثين) , ولهذا اود هنا ان اتكلم قليلا عن ذلك في هذه السطور , اذ انها فعلا (تخدش !) النظر (بتعبير مخفف !) , خصوصا عندما نراها امامنا وهي مطبوعة في مقالات او (وتلك هي المصيبة) حتى في كتب , فالعين تبقى (بصيرة!) , رغم ان اليد قصيرة.
الظاهرة , الذي اريد الاشارة اليها و التركيز عليها هنا , هو تكرار قول ينسبونه بشكل خاطئ الى دستويفسكي , وهذا القول هو – (كلنا خرجنا من معطف غوغول). لم يعد لهذا المفهوم اي اساس في الكتابات عن الادب الروسي في روسيا نفسها منذ اكثر من نصف قرن تقريبا , اذ اثبت الباحثون الروس انفسهم , و بما لا يقبل الشك , ان دستويفسكي لم يكتب ابدا هذه الجملة في كل مؤلفاته الادبية او كتاباته النقدية او رسائله الشخصية , ولم يكتب أحد من أصدقائه او معارفه او معاصريه بشكل عام انه سمع هذا القول من دستويفسكي , وبشكل عام , فان هذا المفهوم لا ينسجم مع الخصائص الفنيّة لابداع دستويفسكي وفلسفته الدينية , المرتبطة – كما هو معلوم - بمسيرة الكنيسة الروسية الارثذوكسية , وتحليله النفسي المعمّق , وليس عبثا , ان فرويد بالذات هو أحد تلامذة دستويفسكي , أمّا غوغول , فهو رمز الواقعية الغرائبية , الواقعية الممزوجة عضويا بالخيال الابداعي غير الاعتيادي , وليس عبثا , ان بيكاسو وسلفادور دالي هما من تلامذة غوغول , والفرق شاسع بين فرويد من جهة وبين بيكاسو ودالي من جهة اخرى. وأذكر اننا تحدثنا عن ذلك في قسم اللغة الروسية بجامعة بغداد قبل اكثر من ثلاثين سنة مضت , ونشرت مقالة حول ذلك في مجلة ألف باء العراقية آنذاك (أشار اليها قبل فترة مؤرشف الادب الروسي في العراق د. منذر ملا كاظم) , ونشر بعض الباحثين ايضا مقالات بشأن ذلك , وأخص بالذات المقالة التفصيلية و الموضوعية حول هذا الموضوع للباحث العراقي الكبير في مجال الادب الروسي د. جودت هوشيار , ولكننا لا زلنا نرى – ولحد الآن – ان هذا القول غير الدقيق (ولا اريد ان أقول اكثر !) حول دستويفسكي وانه (خرج من معطف غوغول) يرد هنا وهناك في مقالات عربية عديدة , وقد (اصطدمت !) بهذا القول شخصيا في كتاب عن الادب الروسي صادر عام 2020 , وتعجبت ليس الا من ذلك , وقلت بيني وبين نفسي – آه لو استطيع ان أهمس في اذن هذا الباحث , أن دستويفسكي يبلّغك تحياته , واوصاني ان اقول لك , انه (لم يدخل ولم يخرج !) من معطف غوغول , وان كل هذه (الحكاية !!!) اختلقها صحافي فرنسي في بداية القرن العشرين بكتاب له عن الادب الروسي , وانتشرت هذه الجملة الغريبة ذات البناء اللغوي الطريف, كما تنتشر كل الاقاويل والثرثرات والوشايات بين الناس , مثل (النار في الهشيم) , كما يقول تعبيرنا العربي الشهير...
دستويفسكي – سيداتي سادتي – لا علاقة له بمعطف غوغول , ولا تورطونا بكتاباتكم وتصريحاتكم عن مسألة في تاريخ الادب الروسي حسمها الباحثون الروس انفسهم منذ زمن بعيد , فهناك قراء عرب يتابعون ويحللون ويستنتجون...والكلمة المطبوعة والمنشورة – موقف واضح وثابت ودليل مادي , ولهذا يجب التفكير بشكل جديّ قبل نشر تلك الكلمات...