سليم سوزه
في روايته “ليلة المعاطف الرئاسية”، يقدّم لنا الروائي محمد غازي الأخرس حكاية تجمع الخيال بالواقع وتصوّر لنا زمنين مختلفين في أحداثهما،
لكنهما يتشابهان في قسوتهما ووحشيتهما تجاه مَن عاش فيهما. تنتقل فصول الرواية برشاقة بين زمن النظام البعثي السابق وتحديداً أيام الحرب العراقية الإيرانية وبين زمن ما بعد التاسع من نيسان من عام ٢٠٠٣، أي بعد الاحتلال الامريكي للعراق ونهاية ذلك النظام. بطلا الزمن الأول شخصيتان، الأولى تُكنَّى بالقارئ والثانية هي الجنرال كوكز، فيما بطلا الزمن الثاني هما الراوي ومدرّسه السابق الأستاذ عواد.
في مثل هذا النوع من الروايات المكتوبة بأسلوب ما بعد الحداثة، والتي يترك فيها الروائي فصوله معلّقة وغير متجانسة، حيث الانتقال من زمن لآخر ومن حادثة لأخرى من دون ربط منطقي او تواصل سردي خطّي بين تلك الفصول والأحداث، يشعر القارى أحياناً بالملل في بدايات الرواية، لكنه ملل سرعان ما يتبدد عندما يبدأ الروائي بعد منتصف الرواية بالعودة الى التفاصيل المتروكة واحدة بعد أخرى وحلحلة الألغاز كلها ليجيب على الاسئلة التي شغلت بال القارئ وحيّرته منذ الفصل الأول. هذا النوع من الروايات لا يُقرَأ على عجالة، بل في حاجة الى تأنٍ وعناية وحذر مركّب من القارئ كي لا يفقد تفصيلة معينة ويخسر معها المساس بخيط الأحداث وثيمتها الأساس. إنها صنف من الروايات المعقّدة التي غالباً لا تُفهَم من القراءة الأولى، إن كانت تلك القراءة متعجِّلة وغير فاحصة لتلك الانتقالات الزمنية والمكانية التي يصنعها الروائي على حين غفلة.
ثمة رمزية عالية تحكم بنية الرواية من أولها حتى آخر فصل فيها، أي فصل “فض الاشتباك”، إذ تعمّد المؤلف صناعة سرد يُقرَأ ويُكتَب ويُروَى عبر شخصية غامضة تتحرك بسهولة لتتقمّص شخصية القارئ والكاتب والراوي في آنٍ معاً. فهذا القارئ نفسه الذي يظهر في الفصل الأول يتحوّل الى كاتب (عندما يصفه الجنرال كوكز بذلك في منتصف الرواية) ثم إلى راوٍ في الفصول التي يظهر فيها مع الأستاذ عواد. هذه، من وجهة نظري، رمزية تشير الى أن القارئ والكاتب والراوي شخص واحد (أو شعب واحد)، وهو يُمكن أن يكون أيَّ فردٍ منّا (أو الشعب العراقي كله بشكلٍ عام). لم يمت المؤلف هنا، بل تحوّل إلى شاهد عيان على قسوة ووحشية الإنسان في زمنين مختلفين. وبالفعل، يندمج الزمنان في الفصل الأخير، فيتبيّن أن ذلك القارئ/الكاتب هو نفسه الراوي، وهو نفسه الشاهد على مآسي الزمنين (زمن نظام ما قبل ٢٠٠٣ وما بعده)، بل وهو نفسه الذي يُفترَض أنه كتب رواية “ليلة المعاطف الرئاسية».
لقد بنى الأخرس سردية معاطفه الرئاسية على جملة سريالية لخّصت معنى أن يكون الإنسان حيّاً وميّتاً في آنٍ واحد، حيّاً في خياله وأحلامه وأهدافه وعواطفه، وميّتاً في معطفٍ رئاسي لا يجد مفرّاً منه. ومهما كان ذلك المعطف الرئاسي، رسمياً أو غير رسمي، حكومياً أو ميليشياوياً، خاكياً أو أسودَ، فهو رمز للسلطة التي تتحكم بالناس وتقرّر عنهم حياتهم ومماتهم. تلك الجملة السريالية التي رسمها الأخرس ببراعة عبر ريشة قصصه وأحداثه المخيفة والفنطازية وغير المتجانسة لتظهر مرة في حلّة غربان الجنرال كوكز وبحيرته للجثث المتعفنة ومرة أخرى في ضحايا الاقتتال الطائفي في شوارع بغداد وطقوس تكية الدراويش في المنصور وباسوورد “الخاتون” الذي ضاع لسببٍ نجهله.
“ليلة المعاطف الرئاسية” رواية تصنع من الواقع خيالاً ومن الخيال واقعاً، فنرى من خلالها تلك العوالم السفلية التي يتساوى فيها الأحياء والأموات، الجمال والقبح، الماضي والحاضر، السلام والحرب، الحب والكراهية، الطيبة واللؤم، الوداعة والبشاعة عندما يتحكّم بنا جنرال قاس كالجنرال كوكز.