عمـار سـاطع
من الصعب جداً أن يُمحى التاريخ؟ والأصعب أن لا تُستذكَر فيه تلك المآثر التي كتبها أولئك الذين كانت لهم بصمة مختلفة وتأثّراً مميّزاً ووجوداً خلّفَ إرثاً قيّماً لا تعادله كنـوز الـدُنيا!
أسوغ مقدمتي لأكتب عن رحيل المختار الذي صال وجال.. المُلهم الذي عملَ بتفانٍ واخلاصٍ وأفنى أكثر من نصف حياته ليعمل في مختلف مجالات الرياضة، أكاديمياً بارعاً وإدارياً مُحنّكاً وإعلامياً بارزاً، بل أنه أصبح مرجعاً رياضياًّ هامّاً، ارتبط التاريخ به قبل أن يرتبط هو معه!
أنه الأستاذ، مؤيد البدري، الذي انتقل الى جوار ربّهِ بعد صراع مرير مع المرض دام لنحو ثمانية أعوام، وهو الذي كتب عنه الجميع بلا استثناء ونعته الأوساط كافة وفقده أهل الرياضة وخسره كل من عرفهُ إنساناً خلوقاً اجتمع على حُبّهِ الجميع، بعد أن ترك أثراً لن يُمحى، روحاً سمحة وقلماً رشيقاً وصوتاً لن يتكرّر!
أكتب عن البدري الراحل، الذي عرفتهُ ليكون من بين نوادر أهل الرياضة، أو من بين الذين أسّسوا لرياضة العراق أو من الذين اسهموا فعلياً في الارتقاء وتطوير العمل الرياضي، بل من ضمن نخبة الذين سلّطوا الأضواء على رياضة الوطن، بوصفهِ أحد أهم القامات التي فعلتْ ما فعلته من أجل أن يكون العراق تأريخاً رياضياً مشرقاً زاهراً يتباهى به كلّ العراقيين أينما حلّوا وارتحلوا!
وفي الحقيقة تقف الكلمات حائرة أمام أحد قمم جبال العراق وهي تفقد رجلاً صنع كلّ شيء بنفسهِ وأشتهر بدماثة خلقه ورزانته وكفاءته ونال اهتماماً غير مسبوق، ليس من الوسط الرياضي فقط، أو أهل كرة القدم على وجه التحديد، بل من عامّة الشعب، بعد أن أدخل الرياضة في كلّ بيت من بيوت العراقيين, وواجه مصاعب كثيرة وأزمات شتّى، لكنه أصرّ على أن يكون له دوراً مهمّاً في الحياة الاجتماعية في حقبتي سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، عبر برنامجه التلفزيوني، الرياضة في أسبوع، الذي نال من الأصداء ما تكفي أن يدخل في موسوعة غينيس للأرقام القياسية، بعد أن أستمرّ في العرض لثلاثين عاماً وأسبوعاً واحداً!
رحيل البدري يجعلنا أن نذكر محاسنه عبر التسلسل الزمني، لنُثبت للتاريخ أنه حالة لن تتكرّر، فهو كان أحد أسباب اهتمامي شخصياً بالرياضة وتعلّقي بها منذ الصِغَر، بل كان مثالاً حيّاً لما وصلت إليه ووصل اليه الكثير من أبناء جيلي والجيل الذي سبقني، لأن ما حقّقه من نقلة نوعيّة تكاد أن تكون نقلة مُثيرة حقّاً، إذ إنه كان سبباً في تعطيل الحياة لدى الجميع في فترات من الزمن بسبب مباريات المنتخب الوطني أثناء مشاركاته المختلفة على الصعيد الخارجي، وكان صوته جذّاباً الى حدٍّ كبير، مسموعاً ومقبولاً بدرجة العلامة الكاملة، وواقعياً قبل كلّ شيء، ومحفّزاً للمؤازرة والتشجيع، حتى ونحن نشاهد المباراة عبر الشاشة الصغيرة!
يفرض علينا المنطق حينما نستذكر (أبا زيدون) أن نندب حظّنا في خسارة هكذا شخصية إدارية فذّة أفنت سنوات طويلة وهي تقود كرة القدم العراقية بالشكل الذي جعلها تصل الى مرحلة الارتقاء ومن ثم إلى محطة العالمية، إذ كان الراحل أحّد صُناع انجاز وصول منتخبنا الوطني الى المكسيك مونديال 1986، وأكثر الشخصيات عملاً باتحاد الكرة ولأكثر من فترة رئيساً وأميناً عامّاً وأميناً للصندوق، مثلما شغل مناصب عدّة في اللجنة الأولمبية، وكذلك تسلّمه لمواقع في الاتحادين الآسيوي والدولي.
أننا هنا حينما نتحدّث عن فقيد العراق الفذ، مؤيد البدري، لابدّ لنا أن نستذكر هذه الشخصية المُلهمة والنقيّة، الشخصية التي خلّفت إرثاً لن يُمحى، وخلقت من المنجزات ما يصعب عَدّها، وزرعت محبة في نفوس العراقيين وصنعت مجداً من الصعب أن يتم قياسه في سطور مقالة أو مقالتين أو حتى مؤلف كامل، لأنها حقاً كانت شخصية فريدة من نوعها وعميقة في تفكيرها وانتهجت طريقة في فن التعامل من الصعب إيجاد بديلاً لها بكل سهولة!
رَحَلَ البدري.. الكنز والتأريخ.. ودُفنَ معه إرثاً كبيراً إرثاً مهماً من العلمِ والمعرفةِ!
(إنّا لله وإنّا اليه راجعون)