لطفية الدليمي
المال له سطوة وحساب في حياة الفرد والجماعة، وعلى مفاعيله تتشكّل التراتبيات الطبقية (برجوازية، بروليتاريا، أرستقراطية بأصنافها: عقارية أو صناعية،،،). قد يختلف أيّ منّا في نظرته للمال، فهو قد يكون بخيلاً حدّ التقتير على النفس أو كريماً بغير حساب؛
لكنّ هذا لايعني أنه في نهاية المطاف لن يكون عضواً في تصنيف طبقي. المال من ناحية أخرى ليس بالضرورة ما يتمظهر في شكله السائل المعروف؛ فقد يكون في صورة مقتنيات رمزية أو مادية كثيرة الأشكال والالوان.
كلّ من قرأ تاريخ الأفكار وتطور الحضارة البشرية والأفكار السياسية والاقتصادية يعرفُ وجود تلازم وثيق بين شكل الطبقة الاجتماعية السائدة في عصر ما وطريقة اكتسابها لملكياتها المالية. هذه حقيقة أولى؛ أما الثانية فهي التصاعد المتواصل لدور العلم والتقنية في خلق ثروات متعاظمة ستعزّزُ بدورها نفوذ طبقة إجتماعية راسخة أو قد تقودُ إلى تشكيل طبقة إجتماعية جديدة. الأمثلة في هذا كثيرة: ظهرت الطبقة الارستقراطية الصناعية الأولى مع تعاظم دور التطبيقات التقنية في الصناعة، وكان أباطرة المال الأوائل من بناة سكك الحديد وشبكات الكهرباء. كم كان لينين صائباً في رؤيته المستقبلية عندما قال أنّ « الشيوعية = الكهرباء + شبكات السكك الحديدية «. الناسُ لن تأكل أفكار الاشتراكية العلمية بدلاً من الخبز ومظاهر التطور المادية المرئية على الأرض.
نعيشُ اليوم في عصر يرى صانعو السياسات وعلماء الاجتماع أنه عصرٌ نيتوقراطي، حيث سادة المال وأكابرُ صنّاع الثروة فيه هم الطبقة النيتوقراطية Netocracy. واضحٌ من التركيبة الاشتقاقية للمفردة (إنترنت + أرستقراطية) أنها تعني تلازم العالم الشبكي المتداخل مع بزوغ السطوة السياسية المستجدة في العالم. مَنْ هم أبرز أقطاب هذه الطبقة؟ بالتأكيد هم سادة عالم الاتصالات الشبكية المعروفة: ايلون ماسك، مارك زوكربرغ، بل غيتس، جيف بيزوس،،،،. نعرفُ أنّ الهيمنة الدولارية الأمريكية تقوم على أساس “خلق الدولار من الهواء” وليس بالاستناد إلى موجودات مادية حقيقية (مثل الذهب)، وجاءت الهيمنة الشبكية لتعزز فكرة الهيمنة الرمزية غير المستندة على ملكيات صلبة. أليست الافكار والكتابات المبثوثة على وسائل التواصل الاجتماعي سوى تشكلات رمزية ثنائية (بحسب التقنيات الرقمية) تسري في نطاقات ترددية محدّدة من الطيف الكهرومغناطيسي؟
لعلّنا سنصابُ بالدهشة لو علمنا أنّ التبشير بقدوم الطبقة النيتوقراطية حصل مع مطلع العقد التسعيني من القرن الماضي، ثمّ تعزّزت الفكرة في كتاب عنوانه (النيتوقراطية: النخبة السلطوية الجديدة والحياة بعد الرأسمالية) نشره مؤلفان سويديان عام 2000 ! هل تتصورون الأمر؟ كتابٌ يحكي قبل أكثر من عقدين عن الحياة بعد الرأسمالية الكلاسيكية المعروفة، ويصفُ بدقة شكل الطبقة الاجتماعية الخالقة للثروة والمتحكمة فيها في يومنا هذا. كتب المؤلفان هذا الكتاب في وقت ماكانت فيه وسائل التواصل الاجتماعي قيد التطبيق واسع النطاق، وعندما كان زوكربرغ طالباً في مرحلة دراسته الثانوية (وربما المتوسطة). هذه شاهدة – بين شواهد كثيرة – على قدرة العقل الاستكشافي المعزز بمعرفة راسخة على إختراق الآفاق المستقبلية التي لايمكن التكهن بمعرفتها في وقتنا الراهن.
ماذا عنّا نحن كعراقيين؟ هل لدينا أرستقراطية حقيقية؟ كلا. إذا كان لدينا أرستقراطيون فهم كانوا من طبقة مُلّاك الأرض، ولن نخوض في كيفية حصولهم على ملكياتهم العقارية الواسعة، وقد أفضتُ في روايتي (عشاق وفونوغراف وأزمنة) في كشف بعضٍ من التفاصيل التي تعدُّ معيارية في توصيفهم. ظلّت أرستقراطيتنا العراقية – باستثناء طبقة صغيرة من الارستقراطية الصناعية- مالية الطابع، طفيلية تعتاشُ على ماتجود به الأرض، ثمّ انتقلت في عصر مابعد الغزو الامريكي إلى طبقة كليبتوقراطية،سارقة، متوحشة، تقرنُ الملكية بضرورة الدفاع عنها بكل طريقة وإن استلزم الأمر استخدام السلاح، وقد وسّعت هذه الفئة قواعد العمل المافيوي وجعلت من الدولة بأكملها مسرحاً لنشاطاتها التي لم ولن تجلب للعراق سوى الموت والدمار وضياع فرص حقيقية للتنمية.
لم يَعُدْ عراق اليوم سوى ميدان مسرحي مكشوف يتناهبه كليبتوقراطيون محليون ومستوردون لن يرتاحوا إلا بعد أن يتركوه جثة تنهشها النسور الكاسرة التي ترقبُ المشهد العراقي وهي تحوم من بعيد، ولن يُتْعِبَها الانتظار.
مأساتنا الكبرى أن ينتهي عراقنا رهينة بيد كليبتوقراطيين جوعى للمال والسلطة ويجهدون للانتقام من عراق كان يمكن له أن يصبح مركز تنوير وتحضر وثقافة متقدمة.