ستار كاووش
أزحتُ ستارة النافذة قليلاً ونظرتُ نحو الشارع، فتأكدتُ من إن المطر قد توقف فعلاً. تناولتُ سترتي الزرقاء من الشماعة بسرعة وخرجتُ نحو ممر البيت ولبستها وأنا أخطو نحو الباب الرئيسي. في الخارج إلتمعتْ الأحجار الملساء الداكنه لشارع دام بروخ الذي إستأجرتُ فيه بيتاً لمدة أسبوع. تجاوزتُ بعض المارة الذين بدأوا يغلقون مظلاتهم وينفضون عنها الماء، وبعد دقيقتين عطفتُ نحو اليسار حيث شارع كارنوت الرئيسي وسط مدينة أنتفيربن البلجيكية التي بدت مغسولة ونظيفة وهي تستقبل يوماً جديداً.
مضيتُ في طريقي لأقطع جادة محاذية لمحطة القطار، متطلعاً الى المقاهي والمطاعم والحانات التي بدأت تفتح أبوابها مبكراً للسائحين الذي يأتون من كل العالم لزيارة هذه المدينة الثقافية والتاريخية. تركت ورائي رائحة الجعة التي إختلطت بنكهة المعجنات التي تشتهر بها بلجيكا، وإمتزجَ كل ذلك بأصوات الناس الذين بدأوا يملؤون الطرقات بعد تأكدهم من توقف المطر.
وبعد عشرين دقيقة من المشي بين الـساحات والأزقة الضيقة، ظهر بيت الفنان العظيم روبنز في شارع فابر، والذي تحول الى متحف يضم أعماله ومقتنياته الشخصية، بيت من طراز الباروك بمدخله المقوس وواجهته التي شيدت بالحجر الأحمر ونوافذه الخشبية ذوات الفتحتين، هو قصر أكثر مما هو بيتاً، بطوابقه الثلاثة التي يعلوها برجاً ومجموعة من المداخن، وكان قد صممه وأشرفَ على بناءه روبنز ذاته قبل أكثر من أربع قرون. وقد بُنيت حديثاً في الساحة المواجهة للبيت صالة زجاجية كبيرة، لبيع الكتب ولمطبوعات المختلفة التي تتعلق بهذا الفنان، كذلك مكتب لبيع تذاكر الدخول الى البيت المتحف.
قطعت التذكرة وأنا أتطلع من خلف الزجاج الى البيت الذي بقي منتصباً كما تركه الفنان العظيم، وتناولتُ كتيباً صغيراً ظهر على غلافه بورتريت شخصي لروبنز بلحيته الشقراء وشاربه المفتول، ووجهه المألوف الذي إنبثقت منه عينان واثقتان وطيبتان. في المدخل إستقبلني رجل، مرحباً ومشيراً الى بعض الأسهم التي توجه الزائرين نحو الصالات العديدة.
شَيَّدَ روبنز هذا البيت سنة ١٦١٠ وعاش فيه مع زوجته إيزابيلا التي أنجبت له ثلاثة أطفال، وقد وسعه مع الوقت ليضم مرسماً كبيراً له وصالات لعرض لوحاته واللوحات الأخرى التي إقتناها من الفنانين الآخرين، كذلك أروقة وصالات تضم المنحوتات التي جمعها من إيطاليا وبلدان أخرى، يُضاف الى ذلك حديقة واسعة للنزهة والراحة في خلفية البيت. وقد رسمَ روبنز أعظم لوحاته في هذا المكان الذي عاش فيه حتى وفاته ١٦٤٠، وقد ظل البيت على حالته التي نراها اليوم، حيث تحول الى واحد من أهم وأجمل متاحف بلجيكا.
في إحدى القاعات، ينبثق كالضوء بورتريت زوجته الثانية هيلينا، تلك الشابة التي تزوجها روبنز وهي في السادسة عشر من عمرها، بعد وفاة زوجته الأولى. وقد منحته هيلينا سعادة زوجية نادرة وحياة ممتعة مع خمسة أطفال، إضافة الى إلهامها له برسم العديد من اللوحات، وهذا البورتريت هو أول بورتريت رسمه لها وهي حامل بطفلهما الأول.
أتنقل بين أرجاء هذا البيت المتحف بطوابقه الثلاثة ومساحته الرحبة، أقف في هذا الركن عند لوحة آدم وحواء، وأتأمل نساءً مترفات في ركن آخر، فيما تطالعني لوحة الفلاح المخمور وهو يرفع قدحه وسط ضجيج واحدة من حانات القرن السابع عشر. وسط هذا المكان عرفت كيف عاشَ روبنز وكيف كان يرسم، هذا العبقري الذي بسطَ تأثيره الكبير وقتها بسبب موهبته العظيمة وعلاقاته الدبلوماسية الواسعة في هولندا، إيطاليا، إنجلترا، فرنسا وبلدان عديدة أخرى.
أطوفُ ببصري في هذا المكان الذي قضى فيه روبنز عشرات السنين، وأنا أفكر أن التاريخ يصنعه بشر مثلنا، بشر أحبوا بلدانهم وهي أحبتهم، منحوها كل شيء، ومنحتهم سر الخلود، تركوا الجمال في مقامهم، ليكبر مقامهم بين الناس، أودعوا لوحاتهم بأيدي بلدان تعرف قيمتها، لتُحافظ البلدان بكل أمانة على هذه الوديعة الجميلة.
يتبع