لطفية الدليمي
كانت السيدة (أورسولا فان دير لاين) في غاية الاسترخاء والاريحية عندما صرّحت: (الأوكرانيون مستعدون للموت في سبيل تحقيق انضمامهم للاتحاد الأوربي).
أطلتُ النظر في وجه هذه السيدة، رئيسة الاتحاد الاوربي - بملابسها وأكسسواراتها الثمينة،وتصفيفة شعرها الارستقراطية، ولمعة أسنانها اللؤلؤية - وهي تعبّرُ عمّا تراه حقيقة على الأرض متمثلة في استعداد الأوكرانيين للموت في سبيل الانضمام للاتحاد الأوربي؛ لكننا نعلمُ من تحليل لغة الخطاب أنّ هذه السيدة – التي توقعنا منها أن تدعو للحوار والسلام - تستخدمُ لغة تحريضية مضمرة باطنها إدامة روح الاحتراب والعداء، وظاهرها تحفيز الأوكرانيين على التعلّق بجنة (الإتحاد الأوربي) التي أعدّت لخلصاء البشر المحظوظين في هذه الحياة!.
عمودي هذا ثقافي بالتأكيد، ولستُ ممّن يأنسون لتحويله منصة خطاب سياسي إلا في حالات نادرة يكون فيها الموضوع السياسي مدخلاً لموضوعة ثقافية مؤثرة، ونعلمُ أنّ الثقافة في عصرنا متعشقة مع كل جوانب الحياة البشرية بما فيها السياسة.
أعرفُ أنّ خطاب رئيسة الاتحاد الأوربي ينطوي على مخاتلة فاضحة، وأنها تريد إطالة الحرب حتى لو تطلّب الأمرُ ألوفاً مؤلفة من جثث الاوكرانيين الأبرياء؛ لكنّ الأمر الأكثر غرابة في كلّ هذا هو دعوة هذه السيدة، القيّمة على أمور الاتحاد الأوربي سليل حضارة التنوير والعقلنة، إلى إعلاء شأن الموت مقابل الحياة. ولماذا؟ لكي ينضمّ الأوكرانيون إلى الاتحاد الأوربي!! وكأن الاتحاد الأوربي عالم فردوسي مغلق يجهله مواطنو العالم.
كنّا في أزمان سابقة نعيبُ في سرّنا تلك التورّمات الحزبية - ذات المنطلق الآيديولوجي - التي تُعلي شأن الموت في سبيل الوطن، وكأنّ الأوطان ماوُجدت إلا لكي نموت في سبيلها. الجماجم والدم والمشانق كانت بعض مفردات خطاب السرطان الآيديولوجي الذي نغّص حياتنا وصوّر لنا أنّ الحياة لاتُستطابُ إلا حين تتشبّعُ بالدماء. كان السؤال الحاضرُ دوماً حينذاك: ماقيمة وطنٍ يموت جميع أبنائه؟ من سيرثهُ لو افترضنا موت كلّ من فيه؟ ثمّ هل أنّ خدمة الوطن لاتكون إلا بموتنا؟ لماذا لانخدمه ونحنُ أحياء صحيحو الأبدان والعقول؟ تعلي كل الانظمة الحزبية والثيوقراطية من شأن الموت لأنه يخدم بقاءها؛ وإلا فهناك العديد من الميادين العلمية والثقافية والتقنية التي يستطيع المرء عبرها إعلاء شأن وطنه وتطوير الحياة فيه.
يبدو أنّ تغيّر خصائص العالم الذي نعيش فيه اليوم لم يشمل المناخ فحسب بل امتدّ ليشمل الخواص الثقافية الجوهرية المميزة لمختلف أقاليمه. صارت رئيسة الاتحاد الأوربي تدعو بشراً آخرين للموت في وقت صرنا - نحن الشرق أوسطيين - نرمي وراءنا أثقال عقود طويلة من ذاكرة مشحونة بالألم والمعاناة سببتها الحروب والصراعات التي إلتهمت مئات الالاف من الأجساد الغضّة والأحلام العريضة.
وأنا أشاهدُ هذه السيدة تخيلتُ (غوته) وهو يتقدّمُ نحو المنصّة حيث تقف وتتحدث، ثم يخاطبها بصوتٍ مسموع: ألاتخجلين ياأورسولا أن تكوني خائنة وسارقة؟ خائنة لأنك تنكّرتِ لمفاهيم (التنوير) و(العقلنة) و (إعلاء شأن الروح الانسانية) بدلاً من تركها نهباً للموت لأي سبب كان، ولن يختلف الأمرُ إذا كانت الدعوة للموت في سبيل وطن أو فكرة أو عقيدة أو مبدأ. هل نسيتِ أنّ الحياة الانسانية أثمنُ من كلّ الآيديولوجيات،وأنها هبةٌ لاينبغي التفريطُ بها لأي سبب كان؟ أما أنّك سارقة فلأنك تريدين تسويق فكرتي عن المقايضة الفاوستية في صيغة سياسية مستحدثة. الفرق بيننا كبير ياعزيزتي: أنا عرضتُ أمر المقايضة في سياق سردي أردت منه تنوير البشر وكشف إمكانيات خداعهم بجنانٍ موهومة؛ أما أنت فتسعين لإذكاء نار الحرب لكي يموت المزيد من البشر بحثاً عن جنّتك الموعودة. ماذا لو أصيب الأوكرانيون بخيبة أمل بعد أن يبلغوها؟ ألم تضعي هذا في حسبانك؟ أنت تلعبين لعبة خبيثة،ولاأراكِ سوى نسخة حديثة من (مفيستو فيليس) في مسرحيتي، مع فارق أنّ (مفيستو فيليس) أكثر نبلاً منك لأنه لم يحرّض (فاوست) على الموت بل وعده بحياة فردوسية فحسب مقابل موت مؤجل. مفيستوفيليس واضحٌ وصريح في لعبته؛ أما أنت فمخاتلة تصرّحين بشيء وتضمرين سواه. ثمّ أنّ لعبة مفيستوفيليس فردية، واحدٌ لواحد، أما لعبتك فواحدٌ إزاء كثرة بألوف وملايين. كيف تجرؤين -وأنت أمٌ لسبعة أبناء - أن تَدْعي ملايين البشر للموت؟ لن أرتضي بعد اليوم أن أكون أحد الرموز الثقافية الرفيعة في (إتحادك الأوربي).
ماأقبح هؤلاء الذين يدعون سواهم للموت أو يحرّضونهم عليه لأي سبب كان، وستزداد قباحة هؤلاء عندما يكونون سياسيين يرون في المتاجرة بدم الأبرياء بعضاً من عُدّة عملهم؛ أما عندما يختصُّ الأمر بأمٍّ وسياسية تمسكُ بزمام الاتحاد الاوربي فستكون القباحةُ حينئذ أكبر من إحتمال البشر.
جميع التعليقات 1
Ali Mutar
نعم ماأقبح هؤلاء الذين يدعون سواهم للموت أو يحرّضونهم عليه لأي سبب كان خصوصا التي تنطلق من منافع شخصية للاستحواذ على منصب او مركز او منفعة مادية دافعين الملايين لمحرقة الموت والدمار