كه يلان مُحمد
الأعمال الأدبية والمآثر الفنية ليست كل مايقدمهُ الكتابُ والمشاهير خلال حياتهم بل هي تُمثلُ جانباً إبداعياً في التجربة التي مايخفى منها قد يكونُ مثيراً للجدل ويفوق تشويقهُ على مايتصدرُ الواجهة في أحايين كثيرة،
لذلك إلى جانبِ وقائعية النصوص والإبداع هناك لعبةُ للحياةِ بزخمها اللامحدود واحتمالاتها المُتعددة إذ ثمةَ منَ أدرك قيمةَ هذه الحقيقةَ ولم يتوانَ من الارتماء نحو الواقع الحافل بالتحديات والحال هذه فلاغرابة من الاهتمام الذي تحظى به سيرة بعضِ شخصياتٍ إبداعية وهي قد غدت مصدراً مُلهماً لكتابةِ نصوص روائية كما فعلَ ذلك الكاتبُ الكوبي ليوناردو بادورا إذ استعادَ جانباً من حياة الروائي الأمريكي أرنست همنغواي في عمله الموسوم ب”وداعاً همنغواي” مشيراً في سياق نصه إلى هواياتِ صاحب “لاتزال الشمسُ تشرق” وعلاقاته مع أقرانهِ في مهنة الكتابةِ إذنْ قد لاتغطي مروية واحدةُ فصول حياة المرء بأكملها لذا بادر ديني ويستهوف وهو ابن فرانسواز ساغان بسردِ سيرة أمها في كتابه المعنون ب”ساغان وابنها” ومن المعلوم أنَّ ساغان قد نشرت سيرتها “مع أطيب ذكرياتي “ عن دار المدى بترجمة عباس المفرجي، ساردةً فيها التجاب التي عاشتها والمحطات التي اختبرتها.ولم تفوتها الإشارةُ إلى روافد تكوينها المعرفي حيثُ ذكرتْ ثلاثة عناوين كانت أعمقَ تأثيراً على ذائقتها الثقافية وتشكيلتها الفكرية “قوت الأرض، الإشاراقات، الإنسان المُتمرد” هذا فضلاً عن اشادتها الكبيرة بشخصية سارتر وكتابه “كلمات” فبرأيها من أكثر كتب روعةً في الأدب الفرنسي هنا يكونُ السؤالُ قائماً بشأنِّ مايمكنُ أنْ تضيفهُ السيرةُ الغيرية على ماوردَ في السيرة الذاتية؟ طبعاً من المتوقع أن يكشفَ ديني ماسكتت عنه ساغان في سيرتها كما أنَّ صيغة العنوان تعِدُ بأنَّ النص يتوقفُ حول ماتعنيه الأمومة في مسيرة صاحبة “ابتسامة ما” الإنسانية.واللافتُ هو مايقولهُ الابنُ في المقدمة حيثُ يعلنُ صراحةً بأنَّه ليس كاتباً ولايدعي الامتلاك لمفاتيح حقيقة مُطلقةٍ وبالتالي لايعتبرُ نفسه أكثر من شاهدٍ متيقظٍ أحياناً ومتسلٍ أحياناً أخرى للوقائع قد دونها في مؤلَفِه.ويتابعُ مشيراً إلى أنَّ كتابهُ هو ضربة مكنسةٍ على كل ماقيل وانتشرَ وراجَ على مدار السنين عن والدته.
ثمن الشهرة
يبدو أنَّ الغرض من نشرِ سيرة أُخرى على لسان الإبن هو تشذيب الصورة من المُفبركات التي تزدادُ تضخماً مع صعود الأسماء الجديدة ومن المعلوم أنَّ الرواية الأولى لساغان كانت بمثابة أوراق اعتمادها لنادي المشاهير.وكما يقولُ ديني أنَّ والدته قد اشترت بعائدات باكورتها الروائية سيارة جاغوار.مايعني تحقيق أرقام قياسية في مبيعات الكتاب وبالمُقابل قد شهدَ الوسط الأدبي استنفاراً ضد الظاهرة الساغانية إذ تكفلت إحدى صديقات الكاتبة بنشر شائعة ونسبت “مرحبا أيها الحزن “ إلى نفسها مدعية أن ساغان ليست الكاتبة الحقيقية للرواية وعندما سئلتْ فرانسواز ساغان عن صحة كلام صديقتها قالت ساخرةً “لايُضايقني أن تقولَ إنها تكتب كتبي طالما لاتقولُ إننى أنا من يكتبُ كُتبَها” ولم تنتهِ الحملةُ عند هذا الحد بل طالت الشكوك أعمالها الأخرى واُتهمت بأنَّ روايتها “الكلب المُتربص” مأخوذة من إحدى قصص جان هوغرون القصيرة بعنوان “المرأة العجوز” وبدوره فتح جان-بير فاي جبهةً على الكاتبة المُغامرة واصفاً مانشرته ساغان بالبديل المبتذل لرواية العبث وما كان ردها إلا صاعاً بصاعين “لم تنتظرْ عبثية الوجود لاسارتر ولاكامو كما أنها لم تنتظرني لتوضع في روايةٍ ,وكذلك الأغبياء لم ينتظروا قرننا هذا لتقديم تعليقات بهذا الأُسلوب”وعن تغيير النسبة وما أثاره من اللغط ينقلُ ديني عن والدته بأنَّ مردُ ذلك كان رينيه جوليار الذي أبدى انزعاجه من وجود اسم كواريز على الغلاف مطالباً منها اختيار بديلاً له وصادفَ أن تزامنَ الاتصال مع انكباب ساغان على قراءة “البحث عن الزمن المفقود” وهنا رشحت للناشر “ساغان” وهو اسم لإحدى شخصيات رواية “مارسيل بروست” يُذكر أنَّ بروست لايغيبُ أيضاً من قائمة لائحة قراءات الإبن يقولُ:-وقعت معه في حيص بيص،وشعرتُ كأننى في دوامة خيل إذ الكلمات والجمل تقذفك من حافةٍ إلى حافةٍ من تفكيرك، مستعيداً في هذا الإطار رأي والدته عن التوغل في غابة بروست “يمكننا أن نقرأ بروست عشر مرات دون أن نكون قد قرأنا بروست على الإطلاق” وهذا مايوحي بأن الحساسية النقدية كانت حاضرةً لدى فرانسواز ساغان
الجنون
ولم تتوقفْ مغامراتها عند زاوية الأدب والإبداع.كانت تحبُ لعبة الروليت وطاولة سكة الحديد إذ رأت فيهما أقصى درجات الإثارة واشترت من المبالغ التي ربحتها في القمار قصراً في النورماندي.وذاقت في كازينو كليرمونت مرارة الخسارة وطعم الربح في آن واحد.وقد سردتْ ساغان تفاصيل هذا الموقف في القسم المعنون ب”القمار” بِمذكراتها ويروي ديني حيثيات ماعاشته مؤلفةُ “هل تُحبين برامس” في الكازينو اللندني وخسراتها لمبلغٍ فادح بحيثُ أرادت العودة إلى باريس وتبيع سيارتها ومنزلها غير أنها لم تنسحبْ من اللعبة ولملمت شتاتها الذهني وتمكنت في نهاية المطاف من الوقوف على رجلها والخروج من قاعة اللعبة بعد أربع ساعات من الصراع المستميت مع الحظ إلى أن روضته.هكذا تكتسبُ ساغان درايةً بهذه اللعبة فبرأيها أنَّ القمار يتطلبُ قوة الإرادة والبسالة ورباطة الجأش ولاتنكرُ الجنون الذي يحلُ على طاولة المُقامرين كما أدركت المساحةَ التي يشغلها المالُ في حياةِ المرء”ثقل المال يمنعُ الإنسان من التسامي.إنَّ له تأثيراً على أولئك الذين يمتلكون المال بقدر مايؤثر على أولئك الذين لايمتلكونه” إذن فما تناولهُ الإبنُ في كتابه يؤكدُ بأنَّ الجنوح إلى المُغامرات كانَ محركاً لحياة ساغان.قد جذَّبها كل ماليس مُطمئِناً.وهذا مايفسرُ اطلاقها العنان لأقصى السرعة في سياقة السيارةِ.الأمر الذي كاد أن يودي بحياتها في عام 1957 وتمزقت إلى ألف قطعة على حد قولها وبالطبع أنَّ هذه الحادثة كانت لها تبعات على حياةِ فرانسواز ساغان إذ لم تعدْ توأماً للحظ واللامبالاة والموهبة والمجد، والغريب أنَّ ساغان وصل بها النزقُ لدرجة أرادت أن تكون حرةً في تدمير نفسها.ولم تكفْ عن تعاطى المخدرات والمواد الكحولية على الرغم من تعرضها لملاحقات قانونية.واستفحلت معاناتها مع الألم بعد حادثة السير مايعني أنَّ المهرب الوحيد بالنسبة إليها كان الأدوية المُهدئة ومن ثمَّ تخضع لعملية جراحية حتى تصرف النظر عن الكحول نهائياً وزادت عليها وطأةُ الأزمات بعد رحيل صديقتها المقربة باولا.تتواردُ في سياق هذه المروية الإشاراتُ إلى اهتمام ساغان بتكوين ابنها المعرفي إذ كانت ترشحُ له الروايات كما حاولت إقناعه بضرورة مزاولة الرياضة.ومن المواصفات البارزة التي رأها ديني في شخصية والدتها الفكاهة التي اعتقدت بأنَّ الافتقار إليها عاهة فكرية مرهقة.كذلك كانت تتمتعُ بالذكاء وسرعة البديهة في الرد كما أنَّ السخاء هو المشترك بينها وبين معلمها سارتر.
عملة الحب
لايستغرقُ الراوي في الحديث عن علاقة ساغان العاطفية ويكتفي بالإشارة إلى زواجها مرتين كما يلتفت إلى قرابتها من بعض الشخصيات السياسية وما كلفتها الصداقة مع رموز اليسار الفرنسي من المحن حيث تألبت ضدها الحكومة اليمنية.وتراكمت عليها الضرائب.ولم تحظَ ساغان في أيامها الأخيرة وهي كانت ترزحُ تحت وحشة الوحدة والمرض بأي اهتمام رسمي ولم يتجرأْ الإبن أن يتقبل بتركة والدته كونها ملغومةً بالملفات الضريبة أياً يكن الأمر فأنَّ العمر والحب والمال كل ذلك برأي ساغان يتمُ صرفه فضلاً على كل ماسبق ذكره أنَّ الابن يذكرً مواقف والدته بشأنِ مامرَّ به العالم أنذاك من الرعب النووي والحروب يشارُ إلى أنَّ ديني ويستهوف يعترف بأنَّ ساغان الأسطورة ليست محمية من النقائص،لكن لاتزالُ حاضرةً بجرأتها وتشوقها للسعادة ومبدأها بأنَّ المأساة لاتعلمك شيئاً.وقناعتها بأنَّ الأولوية لابدَّ أن تكون للحياة المباشرة أما الاحتمالات والأوهام والحسابات فهي فقاقيع تتبدد يذكر أنَّ والدةَ ديني قد طردت من مدرسة لويز دي بيتينييه كان وتمضي يومها من الثامنة صباحاً إلى السادسة مساءً في التنزه بباريس وتابعت قراءتها لكامو وسارتر وكوكتو وبذلك قد مثلت بسيرتها روحَ ذلك العصر الاستثنائي