TOP

جريدة المدى > عام > نقدنا الأدبي في مواجهة السبات والتهافت

نقدنا الأدبي في مواجهة السبات والتهافت

نشر في: 2 يوليو, 2022: 11:23 م

د. نادية هناوي

ليس ممكناً التفكير في أية قضية من قضايانا الأدبية والحياتية أو دراسة أية ظاهرة من ظواهرنا العلمية والعملية ما لم نمتلك مفاتيح التفكير الحقيقية 

كالتجريب والمقايسة والتصنيف والتبويب والإحصاء بمنطقية البرهنة وعقلية المحاججة التي تجعلنا قادرين على الولوج إلى حقيقة الظواهر المفكر فيها والمبحوث في داخل تفاصيلها عن الخفايا والتجليات بغية تلمس المحصلات الواقعية المؤكدة.

وفي نقدنا الأدبي ظواهر وقضايا كثيرة يخالطها الجد والاجتهاد والإخفاق والالتباس وقد تعتريها هنات وتوشحها سمات وتتداخل فيها مناح هي أما لطائف وابتداعات أو هي شوائب وأشنات. وليس يسيراً وضع اليد عليها كلها إلا باعتماد التفكير الحر والواعي كما أن تجاهلها وتركها من دون تفكر فيها متمادين في عدم الاكتراث لها سيؤدي بالنقد والأدب إلى نتائج قد لا تحمد عقباها. من هنا تغدو أهمية أن يرافق نقدنا التطبيقي فكر تجريدي ونظر ذهني يبحث في أساسات الفعل النقدي ويمحص آفاقه تمحيصاً فلسفياً يوقفنا على الأسباب ويضعنا على جادة الكيفيات التي بها نحسّن وظائفنا، مقدمين معالجات ملائمة وحلولا دقيقة. وهذا ما يؤكد أهمية أن تكون لنا رؤانا النقدية التي تلائم تجاربنا وتجعلنا نشعر بتحررنا العقلي من التبعية مدركين أهمية التفاعل العالمي على أساس من التأثر والتأثير وبما يغني المعرفة الانسانية ويجعل التشاركية عمومية بلا مراكز ولا أطراف.

أما اكتفاء الناقد العربي بما يفد إليه من نظريات فلن يحقق له النهوض من سباته ولن ينفض التبعية عنه وسيظل ناقدنا محتاجاً للنقد الغربي. ولعل ما يجري من التهافت نحو الدراسة الثقافية أو ما سمي بالنقد الثقافي هو خير مثال على هذه الاحتياجية التي يراد بها سد الثغرة المعرفية في النقد لكنه للاسف زاد الثغرة عمقا فتعاظمت نظرتنا السلبية لذواتنا كفواعل بلا تاريخ ولا ذاكرة غير عارفين كيف نفيد من الانفتاح الذي حققته كوسموبوليتة العولمة فنملك الحرية التي بها نكون قادرين على التجريب مفكرين ومنظرين، مهتمين بنقدنا تحاورا وبرهنة وتدليلا.

ولا سبيل لوقف تراجعنا العلمي سوى بالتفكير النقدي الذي به نتمكن من أن ننتفع من ايجابياتنا ونعالج سلبياتنا مشتغلين على الأسئلة التي تنبع من خصوصية تجاربنا النقدية تطبيقا وتفكيرا من دون أن نجمِّد حالنا ناظرين إلى تلك الأسئلة بوصفها إشكاليات معقدة غير قابلة للحل بل بوصفها مشكلات تحتاج حلولا نأتي بها في شكل طروحات أو رؤى أو نظريات ننتجها متأثرين بما تراكم لدينا من نظريات سادت الساحة النقدية العالمية ونحاول نحن تدعيمها بما هو جديد أو الإضافة إليها تأصيلاً وإجراءً.

وأن نكون مساهمين في الحركة النقدية فذلك يعني أننا غير معطلين عن الإنتاج فكريا وعمليا. ومعنى أن نكون انتاجيين يعني أننا مدركون لجدوى النظر الفلسفي بوصفه ميدانا لتحقيق الحراك الفكري الحر الذي عبره نرسي منظوراتنا التجريدية والمفاهيمية لتكون بدورها أرضيات عليها ندشن نظرية أو نظريات إفادة وتعميما وانخراطا في عالم الأدب والنقد والفكر على وفق مقصدية عقلانية.

وليس انضباط فعل النقد النظري هو انضباط فعل النقد التطبيقي نفسه، لأن مجال الأول مجال معرفي يتمثل في إرساء فكر شامل وصارم وتنويري للمبادئ والمفاهيم بينما مجال الثاني مجال جمالي يتجلى في وضع منهج مخصوص فيه معايير أو قواعد تعين الناقد على تحليل النصوص الأدبية وتفسيرها وتأويل خفاياها.

وما نلحظه في نقدنا الادبي الراهن أنه في تطبيقاته غير مكترث بالنظرية ولا معترف بأي منظور إلا إذا كان غربياً. والمحصلة أن أي إنتاج نظري يقدمه الناقد العربي هو معطل او مؤود أصلا لا بالكسل في تبنيه وإنما بالنفرة والتعالي بين نقادنا انفسهم الذين هم في الغالب ضنينون في الاعتراف لبعضهم بعضا بجدوى ما يطرحه بعضهم من مفهوم هنا أو تنظير هناك، وكأن لا مناص لنا من أن نجد ضالتنا دوما عند الاخر الغربي واضعين ثقتنا النقدية كلها فيه مطمئنين إلى اجتراحاته وكشوفاته، وحسبنا بعد هذا كله تبعيتنا التي تغلغلت فينا حتى ما عدنا قادرين على التخلص منها.

وعلى الرغم من أن ما يرفدنا به الغرب من نظريات فكرية يقوي نقدنا التطبيقي؛ فإنه في الوقت نفسه يصرفنا عن التفكر في مراحل نقدنا التاريخية وما فيها من طفرات منهجية ومطبات علمية كانت نتيجتها وصول النقد التطبيقي عندنا إلى مرحلة التضخم والتخمة التي منها تتولد أزمتنا الفكرية في الاساس.

وبدلا من أن نفكر في الأزمة مناقشات وجدالات، رحنا نعمل على استبدال نقد بنقد، موجهين رصاصة الرحمة إلى التخصصية ومدارين على الانطباعية ومرحبين بالتأثرية التي بسببها صار التطبيق النقدي متاحاً لا يحتاج أدوات ولا مرجعيات وليست فيه أقيسة ولا مفاهيم ولا معايير ولا اصطلاحات؛ بل غدا ممكناً للكتبة والمتناقدين ادعاء النقدية مدلين بتطبيقات يعدونها ممارسات تصب في باب النقد الثقافي وهي في الحقيقة ليس سوى أدب نقدي. ومن ثم تعزز الشعور العام بلا جدوى النقد أغراضاً ووظائف فتراجع النقد التطبيقي عن جديته بله الفكر النقدي الذي هو مقتول ومعدوم أصلاً.

وكثير من نقادنا العرب لا يكترثون لخطورة الانقطاع وضرورة التواصل تجديداً وتنويعاً، وهو ما يجعل عجلة النقد العربي راكسة في مكانها لا تتطور ولا تتواصل إلا بطفرات غير مدروسة حتى إذا تقدمت كان تقدمها مبتوراً وطارئاً. وما كان للنظريات الغربية أن تتطور وتتقدم لولا تلاقح النقاد والمفكرين تلاقحاً فيه يجدد اللاحق السابق ويطوره، فنوثروب فراي وضع نظريته النقدية بناء على سخريته من معيارية ت. س. اليوت وطور موريس بلانشو المنظور الفكري للأجناس على خلفية تفنيده مقاييس المدرسة الأرسطية وفكك ميشيل فوكو جماليات موت المؤلف بالحفر في جماليات إحيائه.

ولا يخفى ما وراء هذا التواصل النظري من وعي بكلية المشروع الغربي، وهو ما يفتقده نقدنا المعاصر. ومن ثم يظل ناقدنا تطبيقياً بلا مشاريع نقدية واضحة. وإذا حالفه الحظ وكان له مشروع نظري فإنه يظل فردياً بلا اكتراث جماعي للتواصل المدرسي معه. فيكون الغالب هو الاندراج النقدي ضمن تراتبية هرمية تلحقنا بالغرب فلا نستطيع منها فكاكاً ولا نقدر على المروق عليها ثم لماذا نمرق ولا اعتراف لنقدنا إلا بما استوعبه من نظريات غربية شكلا ومحتوى؟ ! !.

وليس غريباً بعد ذلك كله ألا يشهد النقد الادبي الراهن مشاريع نوعية وتجديدية تشتغل على مجال من مجالات الحياة الأدبية والثقافية كما لا اندهاش إن نحن وجدنا النقد الأكاديمي يجتر نفسه اجتراراً، وما عداه نقد ينتشر في شكل مراجعات وعروض بلا خارطة طريق نقدي يسير فيها الناقد بلا عوائق ولا مطبات ولا معضلات.

ولكي يكون لنا اكتراثنا لما هو نظري ومبالاتنا بما هو مفاهيمي تجريدي وبآفاق تنبع من خصوصية تجاربنا النقدية، نرى ضرورة العمل على تنشيط الجدل المعرفي بيننا حول قضايا الإنسان والأدب وظواهر الوجود، مقوضين حواجز الانعزال ومقربين المسافات على المستويين الجامعي وغير الجامعي. ومن المهم تشجيع روح الابتكار والبحث النقدي لعلنا نقف على حقيقة أزمتنا الفكربة معيدين النظر بتاريخنا النقدي واضعين دراسات ترصد خلفياتنا المعرفية وتحولاتنا المنهجية وما لدينا من تطورات أو انتقالات. وعلينا ايضا أن ننفض من عقولنا فكرة الإتباع ونتحرر من التكرار والاجترار اللذين هما سبب كل مشاكلنا النقدية وفي مقدمتها مشكلة الفقر الفكري والنظر الى النقد كثقافة عامة وليس كفلسفة وعلم فيه المعرفة النظرية تعاضدها الفاعلية الاجرائية والتقنية.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

"ذو الفقار" يستهدف وزارة الدفاع الإسرائيلية

مالية البرلمان تحدد أهداف تعديل قانون الموازنة

نائب عن قانون تعديل الموازنة: من المستبعد إقراره خلال جلسة الغد

مفاجأة مدوية.. نائب يكشف عن شبكات تتجسس على المرجع السيستاني

برلماني يصف الوضع السوري بـ"المعقد": العراق يسعى لحماية مصالحه

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

موسيقى الاحد: الدرّ النقيّ في الفنّ الموسيقي

هاتف الجنابي: لا أميل إلى النصوص الطلسمية والمنمقة المصطنعة الفارغة

في مديح الكُتب المملة

جنون الحب في هوليوود مارلين مونرو وآرثر ميلر أسرار الحب والصراع

كوجيتو مساءلة الطغاة

مقالات ذات صلة

علم القصة: الذكاء السردي
عام

علم القصة: الذكاء السردي

آنغوس فليتشرترجمة: لطفيّة الدليميالقسم الاولالقصّة Storyالقصّة وسيلةٌ لمناقلة الافكار وليس لإنتاجها. نعم بالتأكيد، للقصّة إستطاعةٌ على إختراع البُرهات الفنتازية (الغرائبية)، غير أنّ هذه الاستطاعة لا تمنحها القدرة على تخليق ذكاء حقيقي. الذكاء الحقيقي موسومٌ...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram