عدنان حسين أحمد
لم يعد “القتل الرحيم” Euthanasia ثيمة جديدة صادمة ولعل المخرجة اليابانية تشي هاياكاوا هي آخر منْ تناول هذه الفكرة المُروِّعة في فيلم (الخطة 75) التي تتكئ على الموت الرحيم أو النهاية السعيدة التي لا يتخللها الألم ولكن تبقى مُقاربة هذه الثيمة الحسّاسة والخطيرة ومعالجتها هي الجديد الذي ينتظره محبّو الفن السابع. ثمة سؤال منطقي لعله يدور في أذهان الغالبية العظمى من الناس مفاده:
هل يمتلك الكائن البشري الحق في اختيار الحياة أو الموت؟ وهل يمكن للمؤسسات الطبيّة في العالم أن تشرّع (حق الموت) إذا تجاوز ألم المريض حدود التحمّل الإنساني المُتعارَف عليه ولم تنفع معه المُسكِّنات والمُهدئات كلها؟ وفي الفيلم الروائي الدرامي “قمر وردي” للمخرجة الهولندية فلور فان در مولِن الذي كتب قصته السينارست باستيان كروخر لا يعاني يان (يوهان ليسين) من أي مرض، فهو صحيح البدن رشيقه لكن كل ما في الأمر أنه سئم الحياة، وأراد، مع سبق الترصد والإصرار، أن يضع حدًا لحياته التي يعتقد أنها مِلكهُ الشخصي ولا يجوز لأحد أن يتدخل بها من الأولاد والأحفاد والأصدقاء.
لا تستغرق المخرجة وقتًا طويلاً لتزجّنا في الانعطافة الرئيسة للفيلم فهي تجمع العائلة على مائدة العشاء في المنزل حيث الأب يان البالغ من العمر 74 عامًا يخاطب ابنته إيريس (يوليا أكرمانس) ذات الـ 29 ربيعًا قائلاً:”أنا أحبكِ، لكن عليّ أن أخبرك بشيء وآمل أن تحترمي خياري حتى لو لم يعجبكِ. لقد قررت أن يكون عيد ميلادي القادم هو الأخير.” ومع أنّ المضمون واضح ولا لبس فيه إلاّ أنّ إيريس تريده أن يكون أكثر تحديدًا وصراحة. فأضاف بأنّ عمره 75 عامًا وهو عمر جميل ولكنه لا يريد أن يصل إلى الـ 76 سنة مُبررًا رغبته الحاسمة بالذرائع الآتية:”إنني على ما يُرام، لا أريد أن أعتمد عليكم، أو على الأطباء، أو أي شيء من هذا القبيل، وقد فكّرت في هذا الأمر لعدة سنوات”. ثم يُمعن في التوضيح:”لا أريد أن أعيش أطول”. وعلى الرغم من أن إيريس لا تزال مصدومة من هذا الخبر الذي نزل عليها نزول الصاعقة إلاّ أنها استفسرت عن السبب الذي يدعوه إلى الانتحار أو قتل النفس، كما تساءلت إن كان هذا الأمر مسموحًا به أم لا؟ لكنه طلب منها أن تعتاد على هذه الفكرة، وتتقبلها بالنتيجة. أمّا ولده الكبير إيفان (إيلكو سمتس) فقد صُدم هو الآخر وعبّر عن دهشته لهذه القرار العبثي القاسي متسائلاً:”أنا لا أفهم تمامًا، أنت تتمتع بصحة جيدة، ولديك إيريس وأنا، ولا تجلس على كرسيّ متحرّك، وتعمل جليس أطفال كل ثلاثاء، ولديك أحفاد، وتعيش في منزل رائع...” فلماذا تريد أن تضع حدًا لحياتك؟ تعاود إيريس انفعالها لتُخبر الوالد بأنّ الحياة ليست ركوب حافلة تترجّل منها متى ما تشاء وتحدد يوم 28 نوفمبر موعدًا للمغادرة الأبدية. وعلى الرغم من ذهول الأبناء الذين لم يجدوا إجابة شافية إلاّ أنّ الوالد كان يرتب بيع البيت، ويوزّع الحاجيات المنزلية الفائضة عن الحاجة إلى الجمعيات الخيرية، ويُشغِل إيفان وإيريس بالتحضير لعيد ميلاده الأخير الذي سيطوي به صفحة حياته إلى الأبد وسط ذهول العائلة واستغرابها. وبينما ينهمك إيفان بمتطلبات الحفلة المُرتقبة تخطف إيريس والدها وتخبره في الطريق بأنها جلبت له جواز السفر، وكل المتطلبات التي يحتاجها في رحلتهما التي تبدأ من هولندا وتمرّ بألمانيا والنمسا وتنتهي بسلوفينيا التي حجزت فيها منزلاً في منطقة جبلية شاهقة ومغطاة بالثلوج بعيدًا عن الحياة اليومية للأهل والأقارب والأصدقاء حيث تحتفل معه بعيد ميلاده الأخير. وهناك تطرح عليه عشرات الأسئلة علّها تعثر على السبب الحقيقي الذي دفعه إلى التفكير بالموت الرحيم لكنها لا تلقى جوابًا شافيًا، فثمة فجوة كبيرة بين الطرفين، ولكل واحد منهما رؤية خاصة في المواقف والأفكار والتطلعات. فالأب يراها وحيدة وستموت وحيدة. أمّا هو، الرجل الذي شاخ دون أن يقع فريسة للأمراض فقد كان يقف على مبعدة أميال من ملذات الحياة العابرة، ويبدو أنه قد عاش حياته بالطول والعرض وكان مُقتنعًا بما لديه. لقد سألتْهُ إيريس عن كل شيء بما في ذلك حاجته إلى الجنس ولكنه نفى ذلك. وحينما بلغ السكين العظم اعترف لها بأنه يفتقد أمها، ويشعر بالحاجة لاستعادة تلك الأيام المبهجة معها، ولم يعد يحتمل فراقها الطويل. لعلها تنتظره في الأعالي، وهذا احتمال وارد لكنه مُوقن تمامًا بأنها لم تعد موجودة إلى جانبه رغم أنّ البنت تريد أن تحلّ محلها لكنها لا تستطيع أن تعوّضه عن غيابها المُوجع لذلك قرّر الالتحاق بها عبر الموت الرحيم الذي سينقذه من عذاباته اليومية وآلامه التي تتوغل في كل مسامات الجسد وتلافيف الروح.
تعود به إلى المنزل ثانية وتنهمك في الحفل الذي احتضن الأهل والأصدقاء لكنها تعرف إصرار والدها على الرحيل فرقصت معه الرقصة الأخيرة وعانقته أكثر من مرة. وبينما هي تنظف الصالة من مخلّفات الحفل كان والدها يخلط المسحوق الطبي ليُوقف دقّات قلبه إلى الأبد من دون أن يشعر بالألم تاركًا رسالة صوتية يقول فيها:”إنّ حياتي انتهت، والآن حان الوقت الذي اخترتهُ للرحيل. أنا وحيد، ولا أحد يساعدني في هذا الأمر. أترك رسالة الوداع الوحيدة والأخيرة”.
لم تُتح لنا المخرجة رؤية المشهد الأخير فقد عرِف المتلقي بأن يان سيرحل من دون جَلَبة وما تناهى إلينا هو صوت الملعقة الذي يشير بما لا يقبل الشك بأنه مصمم على الموت الرحيم وعازم عليه كلّف الأمر.
لابدّ من الاعتراف بأنّ فلور فان در مولِن هي مخرجة جريئة وأن مشهد الجنس الفمّي الذي حدث بين إيريس وصديقها قد لا يهدف إلى إثارة الغرائز كما هو معروف في العالَمين العربي والإسلامي، وأن المُشاهد الهولندي لا يذهب إلى السينما لمشاهدة هذه اللقطة القصيرة العابرة، وما من مواطن هولندي يعاني من الحرمان الجنسي فحتى السجناء والمجرمين والقتلة تؤّمن لهم الجهات المعنية هذه الحاجة الجسدية لكن المخرجة أرادت أن تنقل ما يحدث في الواقع بأمانة كبيرة.
اعتمدت مولِن في هذا الفيلم على ممثلين كبار أبرزهم الفنان البلجيكي يوهان ليسين الذي شاهدناه في عشرات الأفلام من بينها “معلّم الموسيقى”، و”فيليس... فيليس” الذي فاز فيه بجائزة العجل الذهبي لأفضل ممثل، و “الأمريكي”، و “أرواح متوحشة” وغيرها من الأفلام التي جسّد فيها أدورًا مميزة تشير إلى تقمّصه العميق لغالبية الأدوار التي تُسنَد إليه. ولعلّ أداءه في فيلم “قمر وردي” يُغنينا عن الإشادة بملَكته الفنية التي خطفت الأبصار. كما لعبت الفنانة الهولندية يوليا أكرمانس دورًا كبيرًا في جذب المشاهدين إلى الموضوعات المحرّمة واللامُفكَّر فيها مثل حاجة الأب الجسدية بعد رحيل أمها. ويبدو أداء يوليا في بعض المواقف مسرحيًا وذلك متأتٍ من كونها فنانة مسرحية معروفة وقد وقفت أمام الجمهور الهولندات مرات عديدة في مسرحيات معروفة مثل “حلم” و “دوريان”، و “عالَم شجاع جديد”. أما في السينما فتكفي الإشارة إلى دورها في فيلم “لا أحد في المدينة”.
لابد من التنويه إلى براعة المصوِّر إيمو ويمهوف وحِرفية المونتيرة مينكه كرامر التي جعلتنا نشاهد فيلمًا طويل الأحداث بزمن قصير رغم أنه تجاور الساعة والنصف بأربع دقائق.
بقي أن نقول بأن المخرجة فلور فان در مولِن لديها العديد من الأفلام نذكر منها “تحيات من حلب”، و “في المنفى”، و “اقتحام الجنة”، و “صمود الرجل الأخير”، وهي مخرجة دؤوبة تعد بالكثير من الأفلام الجريئة والمختلفة.