TOP

جريدة المدى > عام > في اضمحلال دور السّارد داخل الرواية

في اضمحلال دور السّارد داخل الرواية

نشر في: 16 يوليو, 2022: 11:31 م

د. نادية هناوي

شهد التنظير السردي تطورات مختلفة في مسألة بناء السارد من ناحية بيان أنواعه وتحديد وظائفه وطبيعة الدور الذي يؤديه كعنصر تسند إليه مهمة السرد/ الكلام.

وقد حقق المنظرون البنيويون في هذا المجال تقدماً كبيراً ثم أضاف المنظرون ما بعد البنيويين إليهم مزيداً من التقدم حين وسعوا مجال الاهتمام من بنية السارد إلى بنيتي المسرود والمسرود له وطبيعة العلاقات التي تربط بينهم، فاهتموا بالغاية أو الفائدة التي يقتضيها وجود السارد أو عدم وجوده داخل الخطاب السردي، منتقلين بموضوعة السارد من بُعدها الداخلي المحايث الى بُعد ثقافي، فتحدثوا عن سارد غير موثوق به وسارد غير كفء وآخر واهم ومجنون تمامًا.. الخ.

ومنذ أن نشر المنظر الالماني وولفغانغ آيزر طروحاته حول القراءة الظاهراتية وتحديداً مقاله(القراءة بوصفها مقترباً ظاهراتياً) 1954، حتى تغيرت كثير من التنظيرات ما بعد البنيوية فلم يعد السارد بنية مركزية، وصار بالإمكان انتهاك أحاديته واختراق مواضعات هيمنته وبالشكل الذي يحيل الخطاب السردي الى بناء مجزأ أو شبه متماسك أو غير شفاف. والأساس في هذا الانتهاك أو الخرق هو أن السارد موضوعياً كان أم ذاتياً ليس هو الشخص الذي يتكلم حاملاً اسماً وله جنس وهوية، ويمارس ما يمارسه الإنسان وبكل إمكانياته وقيوده، بل هو مجرد كيان لفظي قد يكون له شكل وقد لا يكون، ومن الممكن إماتته وإماتة الشخصية معه أيضا.

ومن المنظرين القائلين بموت الشخصية شلوميت ريمون كنعان التي رأت في كتابها(التخييل القصصي: الشعرية المعاصرة) أن الشخصية نمط وظاهرة لفظية أو كيان من كلمات، وهي ميتة حين نقوم بتجريدها من بعض المفاهيم الكلاسيكية، وهو ما يقتضي تبئير من يراها وليس من يتكلم عنها. وأفادت مما صرح به كتّاب ومنظرون معاصرون في هذا الصدد، داقين مسامير في نعش الشخصية، منهم رولان بارت القائل: (إن ما هو آيل الى الزوال في رواية اليوم ليس الروائية وإنما الشخصية فما لا يمكن كتابته بعد الآن هو اسم العلم) 1970 واستندت أيضا إلى ما تحفل به الرواية الفرنسية الجديدة من إنكار للشخصية التقليدية؛ فالروائي آلان روب غرييه رفض منذ عام 1963 الاعتماد على العمق السايكولوجي للشخصية في حين ركزت الروائية ناتالي ساروت على المرحلة ما قبل ــ الإنسانية في الشخصية.

وصحيح أن شلوميت لم تقل بموت السارد لكنها قالت باختفائه في صورتين: صورة السارد داخل الحكاية وصورة السارد خارجها. وتكون درجة الاختفاء أعلى مع السارد كلي العلم لكنها أكدت أن الاختفاء لا يعني الغياب إلى حد التواري أو الزوال مما يسميه تشاتمان(قصة لا مروية) ومثالها على ذلك قصة القتلة(The Killers) لهمنغواي، وقد أثنى النقاد عليها بفعل خفاء ساردها في الحوار وليس غيابه، مدللة على الاختفاء بما سمته(علامات صغرى) بها نستدل على وجود السارد المختفي منها قيامه بـ: 1) تحديد هوية المتكلمين 2) وصف المكان و3) المظهر الخارجي للشخصيات 4) التلخيص الزمني 5) نقل ما تفكر فيه أو ما لم تقله 6) دوره في التعليق وإطلاق الأحكام.. وتساءلت باستفهام استنكاري: إذا لم يكن هذا الشخص هو السارد فمن يكون إذن؟ ! ثم أن غياب السارد في فيلم او عرض مسرحي ممكن، لكنه في التخييل القصصي غير ممكن، لان العرض يتم بواسطة اللغة وهذه اللغة هي للسارد. (كتابها، ص143 و144)

ولم تكن شلوميت وحدها قد فككت مركزية السارد بإماتة الشخصية، بل جوناثان كلر شاركها التفكيك أيضا حين قال بفكرة أن السارد كلي العلم غير جدير بالثقة، والسبب محدودية وجهة نظره في فهم الأحداث، فالسرد يكون من خلال وعيه لكن إذا كان السارد ذاتياً فإن الأمر مختلف، لأن السرد يكون من خلال وعي الشخصية فتكون هي بؤرة السرد.

وباعتبار السارد مختفيا ثم غير جدير بالثقة تكون الطريق ممهَدة لمنظري السرديات ما بعد الكلاسيكية لأن تأخذ رؤاهم المنتهكة والخارقة مجالها نحو الاتساع من قبيل القول بإحياء المؤلف ومركزة القارئ داخل السرد والتي بها تبطل دعاوى موت الرواية كما تتقلص فكرة اتجاهها صوب اللارواية ومنها القول بموت السارد(death of the narrator) التي طرحها أحد منظري السرد ما بعد الكلاسيكي وهو براين ريتشاردسون brian richardson في دراسته الموسومة(مقدمة: تجاوز الذات والصوت في الرواية المعاصرة وموت السارد introduction: trangressing self and voice contemporary fiction and the death of the narrator,) 2006 ضمن كتابه (أصوات غير طبيعية: السرد المتطرف في المتخيل القصصي الحديث والمعاصر narration in modren and contemparary unnatural voices , extreme fiction , the ohiostate university press, 2006.) ص1ـ17.

وفيه تتبع بنظرة ورائية ما في الروايات الكلاسيكية منذ دانييل ديفو من طرق في استعمال السارد، فوجدها في شكلين: الأول هو استكشاف الذات والذي طورته جين اوستن باستعمالها للخطاب الحر غير المباشر، والآخر هو صعود السارد الذي لا يعول عليه أو غير الموثوق به والذي بدأ مع السرد الرسائلي واكتسب شهرة مع رواية(رسائل من العالم السفلي Notes from Underground ) 1864 لدستويفيسكي ــ وكانت أول ترجمة لها الى الانجليزية عام 1913 ــ وما كان قد بدأه أيضا لورنس ستيرن في روايته( تريسترام شاندي) 1767 وفيها ابتعد عن استعمال السارد الرومانسي الذي عرف عند بايرون في روايته دون جوان 1842 وهايرنيش هاينه في روايته بوخ لو جراند 1827وبوشكين في إيفجيني أونجين 1833. ومع بزوغ تيار الوعي الذي شاع على يد جويس وفرجينيا وولف وفولكنر صار للسارد بضمير المتكلم اسم وهوية جندرية ثم مرَّ ــ بحسب ريشاردسون ــ بمرحلتين: الأولى تمثلها الجملة التي بها تفتتح رواية(موبي ديك) لهيرمان ملفل وفيها يقول السارد اسماعيل(call me Ishmeal نادني اسماعيل) والمرحلة الثانية يمثلها السارد في رواية (يوليسيس) لجيمس جويس.. وبعد ذلك أخذت مركزية السارد بضمير المتكلم بالتضعضع مع بيكيت الذي جعله مجرد صوت بلا جسد وبلا اسم ثم بلغ الأمر الذروة مع تعدد السراد المشكوك فيهم وتنوع الضمائر التي يستعلمونها.

ومما أكده ريتشاردسون هو أن تراجع صورة السارد الواقعي الذكوري والسارد الذاتي الذي هو أما مذكر أو مؤنث كانت مع رواية(حواء الجديدة) لأنجيلا كارتر 1977 ورواية(ببغاء فلوبير) لجوليان بارنز عام 1984 اللتين انتهكتا استراتيجية تحديد جنوسة السارد وجعلتاه تركيبا لفظيا وليس شخصا فعليا يمكن تسميته أو تحديد الضمير هو أو هي الذي به يظهر صوته.. فكيف يمكن للكتّاب التجريبيين أن يمضوا قدمًا من ضمير المتكلم والغائب الى ضمير “نحن” الذي يجمعهم، أو ضمير “أنت” أو ضمير الجماعة “هم”؟ وهل يأتي صوت بلا ضمير بصيغة المبني للمجهول بمعنى أن هناك ضمائر جديدة ومبتكرة يمكن التعليق على وظائفها؟

ومما بيّنه ريتشاردسون وشدد عليه قوله إن السارد لم يعد كيانا يشبه الانسان في أفعاله وتصرفاته وإنما هناك أنواع جديدة من الساردين ليست من البشر، وتشبه تلك التي عرفها السرد في الماضي حيث السارد معتوه او طفل او جثث او حيوانات او اشباح. وهذا الذي يطرحه هذا الناقد هو بمثابة تحد لنظرية السرد الكلاسيكية والذي بموجبه تتغير العلاقات بين المؤلف والسارد تارة بوجود المؤلف الضمني والقارئ الضمني، وتارة ثانية بتغير مفهوم “وجهة نظر” عما كان قد طرحه هنري جيمس وفيكتور شكلوفسكي وجيرار جينيت حيث القصة تُروى أما من قبل إحدى شخصياتها أو أن يرويها سارد موضوعي خارج القصة، وتارة ثالثة بتغير المسافة بين السارد الموضوعي والمسرود فلم تعد هي المسافة بين المؤلف والقارئ الفعلي كما أن اللامسافة بين السارد الذاتي والشخصية مما نجده في سرد المذكرات والسير الذاتية هي الأخرى صارت متغيرة وعائمة.

وأحال ريتشاردسون على ما صرَّح به فيليب لوجون من أن الأعمال الخيالية من منظور الشخص الأول هي غيرها من منظور الشخص الثالث الغائب إذ لا يستطيع السارد بضمير المتكلم أن يعرف ما يدور في أذهان الآخرين بينما يمكن للسارد بضمير الغائب ذلك فهو وحده الذي يعرف حل اللغز.

ومحصلة ما يقدمه ريتشاردسون أن السارد ميت، وهو كأي شخصية أخرى في النص شكل من كارتوني يمثل بشكل غير كامل إنسانًا، سرده مليء بالتناقضات والتكرار والاختلافات في تصوير الشخصيات، وهو بلا هوية حقيقية كما في قصة «شكل السيف» لبورخس1944 بينما مثَّل بقصته (الأطلال الدائرية) على الخلط الذي وقع فيه ميشيل بوتور في التمييز بين الضمائر النحوية الثلاثة واجدا فيه صرامة ليس لها ما يماثلها في الحياة اليومية، متسائلا: ماذا عن الصوت حين تكون الشخصية صامتة من الذي يخبرنا أنها تحلم؟ وهل هناك وعي قائم في وعي آخر يدوّن نفسه في عقله؟ أ ليست هذه التداخلات متضادة مع المحاكاة؟

كل هذه التساؤلات والاستشهادات التي عرضها براين ريشاردسون جاءت لتؤكد موت السارد في الرواية ما بعد الحداثية ليكون التأرجح قائما بين الضمائر السردية وتحديدا ضميري الشخص الأول والثالث. وهو ما يجعل الانتاج النظري الذي حققته السرديات الكلاسيكية على مدى نصف قرن وأكثر على أعتاب مرحلة جديدة توصف بأنها انفجارية في دراسة السرد ومحاكاة النماذج البشرية وغير البشرية.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

"ذو الفقار" يستهدف وزارة الدفاع الإسرائيلية

مالية البرلمان تحدد أهداف تعديل قانون الموازنة

نائب عن قانون تعديل الموازنة: من المستبعد إقراره خلال جلسة الغد

مفاجأة مدوية.. نائب يكشف عن شبكات تتجسس على المرجع السيستاني

برلماني يصف الوضع السوري بـ"المعقد": العراق يسعى لحماية مصالحه

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

موسيقى الاحد: الدرّ النقيّ في الفنّ الموسيقي

هاتف الجنابي: لا أميل إلى النصوص الطلسمية والمنمقة المصطنعة الفارغة

في مديح الكُتب المملة

جنون الحب في هوليوود مارلين مونرو وآرثر ميلر أسرار الحب والصراع

كوجيتو مساءلة الطغاة

مقالات ذات صلة

علم القصة: الذكاء السردي
عام

علم القصة: الذكاء السردي

آنغوس فليتشرترجمة: لطفيّة الدليميالقسم الاولالقصّة Storyالقصّة وسيلةٌ لمناقلة الافكار وليس لإنتاجها. نعم بالتأكيد، للقصّة إستطاعةٌ على إختراع البُرهات الفنتازية (الغرائبية)، غير أنّ هذه الاستطاعة لا تمنحها القدرة على تخليق ذكاء حقيقي. الذكاء الحقيقي موسومٌ...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram