لطفية الدليمي
كلنا نعرف عبارة «عريضة بلا طابع». ربما لم يتعامل معها أبناء جيل مابعد 2003؛ لكنّ الأجيال السابقة تعاملت مع العرائض كثيراً. كانت معظم موضوعات العرائض تظلّماتِ وشكاوى يكتبها للمتظلمين كتّاب عرائض «عرضحالجية « تمرّسوا بفنون مخاطبة المواقع الوظيفية العليا بعبارات التفخيم واللعب على وتر التعاطف الانساني.
كانت فلسفة كتابة العريضة مشابهة تماماً لمبدأ المقامرة الباسكالية: أكتب عريضتك لأنك لن تخسر شيئاً. ربما كانت هذه الفلسفة سبباً دفع المسؤولين لاحقا لفرض «رسم الطابع» على العرائض للحد من حمى كتابة العرائض التي لايحق لأغلب أصحابها - قانونيا - ما يعرضونه من قضايا.
يبدو المخيال الشعبي مثل عرضِ فلكلوري مجاني وضع سيناريوهاته مجموعةٌ من (العرضحالجية)، تسمع في هذا العرض وترى كلّ مايمكن لخيالك أن يقبله أو يرفضه، والغريب أنّ الحكاية التي تسمعها اليوم قد تسمعها غداً بعد أن يضيف لها مجهولون بعضاً من المنكّهات التي تزيد الجرعة الدرامية للحكاية الشعبية. القانون الحاكم للحكاية الشعبية واضح: كلّما زادت الجرعة الدرامية – بل وحتى الميلودرامية – فيها كان تأثيرها أكثر حضوراً في العقل الشعبي.
أظنُّ أنّ أغلبنا سمع بالدكتور الفيزيائي الراحل (عبد الجبار عبد الله) رئيس جامعة بغداد بعد ثورة 14 تموز 1958. لو سألتَ معظم من سمع بالدكتور عبد الله: ماالذي تعرفه عنه؟ سيجيبك على الأغلب بأنّه أحد الطلاب الأربعة لآينشتاين، وأنه الوحيد الذي أهداه آينشتاين قلمه الذي خصصه عبد الله في التوقيع على أطاريح الدكتوراه العراقية. ربما سيضيفُ بعضهم حكاية خروج الدكتور عبد الله حاملا مظلة في يوم مشمس، وعندما سأله البعض: لماذا المظلة والشمس مشرقة؟ أجاب: إنتظروا قليلاً وسترون هطول المطر. بالطبع سيهطلُ المطر مدراراً في الحكاية المتداولة؛ فالحكايات الشعبية تستعصي على التكذيب أو التشكيك أو التدقيق في حيثياتها التاريخية.
لايعرف أغلب مَنْ سمع بالدكتور عبد الله أنه كان أحد مؤسسي جمعية (الرابطة) التي ترسّمت خطى الجمعية الفابية في بريطانيا وكانت تسعى لبلوغ مجتمع يسود فيه نمطٌ من الاشتراكية الهادئة بطريقة معقلنة بعيداً عن وسائل العنف، وأنه كان يتقن الانكليزية والالمانية، وإلى حد معقول الفرنسية، وأنه درس في معهد ماساتشوستس التقني MIT الشهير في أمريكا وحصل منه على درجة D. Sc. التي تتفوق على شهادة ال P. D، وأنه ألّف كتباً منهجية في الفيزياء للمراحل المتوسطة والثانوية كانت معتمدة منذ بدايات خمسينات القرن الماضي وحتى سنوات عديدة لاحقة، وأنه ترجم أحد الكتب المنهجية في الفيزياء الذرية والنووية، وأنه كان فيلسوفاً ذا ميول فكرية واهتمامات معرفية متشعبة ومتداخلة.
لماذا لايؤكد السامعون بإسم الدكتور عبد الله والمحبون لسيرته على هذه التفاصيل المهمة ويلحّون على موضوعة قلم آينشتاين والمظلة في يوم مشمس.. إلخ؟ لأنّ الحقائق المجرّدة لاتنطوي على الإثارة المطلوبة؛ وبالتالي لاتصلح أن تكون مادة مؤثرة لبناء مشهدية ناطقة في حكاية شعبية.
فضلاً عن حجم التلفيقات – وربما حتى الأكاذيب المقصودة – في الحكايات الشعبية فهي تنطوي على إساءة كبرى.
لنتناول أولاً بعضاً من التلفيقات في حكاية الدكتور عبد الله مع آينشتاين. لم يُعرَفْ عن آينشتاين أنه كان أستاذاً جامعياً نظامياً بعد قدومه إلى الولايات المتحدة الأمريكية عام 1933. ظلّ طوال حياته هناك وحتى وفاته عام 1955 أستاذاً منتسباً لمعهد الدراسات العليا التابع لجامعة برينستون. أما حكاية قلم آينشتاين التي كان يوقع بها الدكتور عبد الله أطاريح الدكتوراه فتلك أخدوعة لايقدِمُ عليها سوى الغشماء؛ إذ بالكاد كانت جامعة بغداد المؤسسة حديثاً عام 1956 تجاهد لاستكمال مؤسساتها الجامعية وأقسامها الأكاديمية الأولية. تصوروا مثلاً أنّ أول شهادة ماجستير في كلية الهندسة مُنِحت في قسم الهندسة المدنية عام 1964؛ أي بعد عام من إنقلاب 8 شباط 1963 ومغادرة الدكتور عبد الله موقعه في رئاسة جامعة بغداد. متى وقّع شهادات الدكتوراه إذن ودراسات الماجستير كانت في بداياتها؟
يكمن الخلل في بعض الحكايات الشعبية التي تتعلق بسِيَرِ الاشخاص ذوي البصمات الفكرية المهمة في بلدنا أنها تؤسطرُ الأشخاص وتجعلهم أقرب إلى سَحَرة ذوي قدرات خارقة، وفي هذه الأسطرة إساءة للتفكير العلمي القائم على العقلنة ومساءلة الوقائع دون انحيازات مقصودة أو تضخيمات فلكلورية. ثمّ ألايصلح أن يكون الدكتور عبد الله نموذجاً رائداً بذاته من غير إلحاقه بآينشتاين؟ هؤلاء المؤسطرون الفلكلوريون يسيئون من حيث يسعون لإعلاء شأن الدكتور عبد الله.
كثيرةٌ هي التلفيقات المخبوءة في ثنايا حكاياتنا الشعبية، وإذا ماسمعنا حكاية شعبية غير موثقة في مراجع معتمدة، وفيها جرعات عالية من الدراما وكانت تُروى بأشكال متباينة ولها سيناريوهات متعددة؛ فلابد لهذه الحكاية أن توضع موضع المساءلة الدقيقة بدلاً من قبولها التلقائي.
ربما تكون حكاية قلم آينشتاين أقلّ الحكايات ضرراً حتى لو جانبت الصدق، فماذا عن حكايات السياسة والسياسيين في بلدنا؟ ؟ ! !