طالب عبد العزيز
يقول الرياضيون باستحالة استخلاص خط مستقيم من خط منحن. المنطوق الذي يصلح أن نقول معه باستحالة الحديث عن الاستقامة في تركيبة اجتماعية غير منتظمة. وتركيبة المجتمع العراقي معقدة جدا، عصية على الفهم، صعبة المراس، حادة المزاج، تذوب في اليسار بعواطفها، وتنحرف بها اقصى اليمين ايضاً. البلاد تسير نحو الفوضى، وليس غير الفوضى أداة للتغير، أكانت بالسلاح أو بغيره. الخلل الذي أصبح بنية لا يستقيم إلا بخلل آخر، مماثل له، أو يفوقه. كل المؤشرات تقول ذلك.
يجب أن يقرأ المجتمع العراقي قراءة عراقية خاصة، تستبعد كلَّ نظريات وعلوم الاجتماع والايدولوجيا، وأي قراءة فاحصة للتاريخ تبوح بذلك، العراق، هو البلاد الوحيدة التي استعصت على الولاة في الخلافة الاموية. نستحضر وصية عبد الملك بن مروان لأحد أبنائه، بشأن والي العراق، وقوله بوجوب استبداله كلما دعت الحاجة لذلك. لا تعمل طبيعة العراقي في الوسط والجنوب- الفاعل الاول في الحراك اليوم- برافعات دينية أو طائفية حسب، إنما تتحرك بخلطة عراقية خاصة، هي نتاج سكينة وفوضى معا، رفاهية وقهر، تحضر وبداوة، خلطة غير متجانسة،عمرها مئات السنوات، زادها عنفاً استبعاد غالبيتها الطويل عن المشاركة في السلطة، فهي تتحرك بقوة استرداد الزمن، الذي تتخطى معه حدود الايدولوجيا والدين والمجتمع.
كل نظرة فاحصة لما ينشر من صور وافلام للشباب الغاضب، الذي يحاول دخول المنطقة الخضراء تمنحنا أكثر من معنى، فالهتاف لا ينسجم مع الهدف، والحركة لا تقود الى غاية، والنظرة المستهجنة لا تملك البديل، والقبضة المرتفعة لا تضرب القاهر الحقيقي وهكذا، لكنَّ المجمل سعي باتجاه التغيير، وأي تغيير ياترى؟ لا أحد يعلم. هذه الفوضى خلاقة نعم، وضرورة لا شك، لكنْ، كيف، وألى اين؟ هو السؤال.
يخطئ من يعتقد بأن الجموع الثائرة، التي تنشد التغيير تنتمي الى التيار الصدري وحده، ذلك لأنَّ الشارع العراقي من أقصاه الى اقصاه يحلم بالتغيير، ويتطلع اليه، ويريد أن يكون فاعلاً فيه، لكنه، يخشى من اختطاف حلمه، وضياع جهده. فالصورة النمطية تعمل لصالح التيار، بوصفه القوة الاكبر، وهو حق مكتسب له، لكننا، نتحدث عن مليون متظاهر صدري في أكبر التقديرات، بوجود أربعين مليون عراقي ينشدونه ويتطلعون اليه، والمشاركة فيه، بل وقادرين على صنعه إذا تم الاعتراف بهم كشريك فاعل، يؤخذ برأيه في بناء الدولة المدنية، خارج حدود التفرد والتسميات المعلنة، ويضمن حياته بعدم الملاحقة والاقصاء.
يتحرك عابرو الحواجز الكونكريتية بحلمين: (الوظيفة في الدولة والخلود في الجنة) وهما حلمان حقيقيان، يغازلان الجسد والروح العراقيين. لكن، أين الضامن في ذلك؟ وكيف لحلم أن يتحقق بعد عقدين من تكرار اليقظة البائسة، التي اودت بالجسد والروح؟ التجربة أثبتت أنَّ الدين والطائفة والولاء الشخصي محركات قوية في الشارع، وهو ما تعمل عليه القيادات، وتدرك تأثيره، لكن، وماذا عن مشروع الدولة؟ هل تستطيع الشعارات الدينية بناء دولة المواطنة، الحلم العراقي المغيب، والذي مازالت الكتل السياسية مجتمعة تقرضه، لإعتقادها بأنه غير منتج، ولهم في تجربة اليسار اسوة حسنة. هذه المعادلة العراقية المستحيلة، هي العقدة المستعصية في البناء. جمهور تحركه الشعارات الطائفية- بمعناها الحميد- تقوده نخب تعي استحالة قيام الدولة الدينية، ولا تملك مشروعا وطنياً.