TOP

جريدة المدى > عام > حكاية آليكسي فيودوسفيتش في الراصد الجوي

حكاية آليكسي فيودوسفيتش في الراصد الجوي

نشر في: 31 يوليو, 2022: 12:02 ص

ترجمة مي عبدالكريم محمود

في عام 2010 واثناء حضور اوليفيه رولان لمؤتمر في جامعة آرخانجلسك في روسيا، يقرر السفر بالطائرة لزيارة الدير الواقع في جزر سولو فكي المعروفة بعمقها التاريخي وموقعها الجغرافي في شمال الأراضي السيبيرية الشاسعة.

في هذا الدير أقيم اول معسكر للغولاغ. عند وصوله هناك يكتشف مكتبة تحوي ثلاثين ألف مجلد تعود بشكل او بآخر الى معتقلي المعسكر الذين كانوا في غالبيتهم من النبلاء والمثقفين.

وخلال بحثه في المكتبة يعثر رولان على البوم يضم رسائلا كتبها الراصد أليكسي فيودوسفيتش الى زوجته فرفارا وابنتهما آلينورا التي كان عمرها اربعة أعوام وقت ترحيله، كما احتوى الالبوم على رسومات واعشاب مجففه واحاجي تشير الى اسم صاحبها الكسي فيودو سفيتش فانغنهايم المرحل الى جزر سولو فكي عام1934.

هذا الالبوم غير المتاح في المكتبات تكفلت بجمع محتوياته ونشره ابنته آلينورا تكريما لذكرى ابيها الراحل.

يحكي لنا اوليفيه رولان على امتداد صفحات هذه الرواية قصه أليكسي الذي ولد في أوكرانيا وترعرع في عائلة من أصول نبيله الا انه يقرر ترك كل شيء خلفه ويعتنق الشيوعية.

الغيوم هي مجال اختصاص اليكسي فيودوسفيتش، الغيوم الممتدة في سماء اتحاد الجمهوريات السوفيتية الاشتراكية. الطائرات تستعين بتنبؤاته للهبوط والسفن لكي تشق طريقها في الجليد، والجرافات لحراثة الأرض. وكان بمقدوره سبر طبقات الغلاف الجوي الستراتوسفير بادواته الخاصة ويبذل قصارى جهده لتطوير امكانياته وكله عزم على ان يساهم من موقع عمله في بناء النظام الاشتراكي الناشئ في بلده.

وهكذا كان حتى ذلك اليوم من عام 1934، وبينما كان متجها لملاقاة زوجته عند باب مسرح البولشوي في موسكو، ألقى القبض عليه بتهمة التخريب، لتبدأ بعدها قصة سقوطه في جحيم النظام الستاليني. خلال فترة اعتقاله في معسكر جزر سولوفكي في البحر الأبيض حتى وفاته كان يرسل الى زوجته برسائل شجية والى ابنته الصغيرة بالرسومات والاحاجي والنباتات المجففة. يقول المؤلف اوليفيه رولان ان اكتشافي لهذه الرسائل للأبنة التي لن يراها أباها ابدا هي التي جعلتني اتخذ قرار التحري عن مصير اليكسي فيودوسفيتش فانجنهايم.

تتضمن الرواية اربعة أجزاء: الجزء الأول الذي يشكل نصفها تقريبا، مكرس لسرد حياة أليكسي حتى وصوله سجينا الى سولو فكي. والجزء الثاني عن حياته في المعسكر والرسائل التي أرسلها الى عائلته والى السلطات، والجزء الثالث مخصص لنهاية الرحلة وفي الجزء الرابع يظهر اوليفيه رولان من جديد ليقدم لنا تفسيره الخاص للأحداث إضافة لعدد من الصفحات لنماذج من رسومات ورسائل المعتقل لابنته. اوليفيه رولان الذي عرف عنه اهتمامه بتاريخ روسيا الحديث يرى أن الثورة الروسية عند قيامها قد أحيت الآمال العظيمة في قلوب الملايين من البشر الا ان هذه الآمال ما لبثت ان خابت أمام احتفالية الرعب والدم و يتساءل السارد رولان: هل كان لنا ان نشهد الانتصار العالمي للرأسمالية لولا ما جره النظام الستاليني المستبد من قضاء على الحلم الثوري في بناء مجتمع عادل؟.

هل يمكن للأدب ان يملئ فجوات التاريخ وذاكرته الممحية ؟ هل تملك الكتابة معجزة إعادة المفقودين الى الحياة وأحياء الحقب المنسية؟ وهل لخلطة الواقع والتخييل قدرة لملمة رميم العظام واستعادة الثورات والاحلام؟ هذا بعض مما أراد ان يحققه الروائي أوليفيه رولان عندما راح يقتلع من المقابر الجماعية السوفيتية بطلا من الحياة العادية بقي مجهولا ليسمعنا صوته وهو يخبرنا بقصته التي كان الاستبداد قد محاها من التاريخ وغيبها من الذاكرة. كثر الذين كتبوا عن هذه الحقبة واوليفيه رولان هو بالتأكيد ليس اول من دان الحقبة الستالينية الدموية، فهناك دوستويفسكي وروايته “ بيت الموتى “ و “ قصص الكوليما “ للكاتب شالاموف، بيد ان رولان الذي كان في شبابه رئيسا للجناح العسكري لليسار البروليتاري يكشف وفي اكثر من موضع في الرواية عن خلجات نفسه، مازجا بين أناه بوصفه المتحري وبين القصة الحقيقة للراصد الجوي، ويطبعها بتساؤلاته عن دور الادب في انقاذ العالم، فيسخر من غوركي الذي جاء عام1929 لزيارة المعسكرات وغادرها فَرِحا ليقوم بعد ذلك في 1933 بدعوة 120 من كتاب العالم للقيام بجولة بحرية في قناة البلطيق في البحر الأبيض هذه القناة التي بنيت على جثث مئات الالاف من معتقلي سجون الغولاغ. وينتقد سارتر لأنه لم يسجل موقفا إزاء القيود المشددة التي كان يتعرض لها المثقفون من لدن السلطات السوفيتية، وانحيازه للموقف الرسمي المعارض لمنح جائزة نوبل للكاتب باسترناك. ويذكرنا رولان بموقف الشاعر اراغون الذي ضمن أحدى أشعاره اشادة برجال البوليس السري السوفيتي.

صدرت الراصد الجوي في نوفمبر 2014 ونالت في العام نفسه جائزة الأسلوب هذه الجائزة التي ترمي الى إعادة الهيبة للطرق الاسلوبية واهميتها في تنويع الكتابة الروائية. وصفت بانها أجمل ما صدر من أعمال روائية في ذلك الموسم الادبي. إذ نجحت في تناولها لموضوع تاريخي من كسر مألوف المشهد الروائي ومن هنا امتازت عن سواها من الروايات التي بدأ كتابها يعانون على ما يبدو من فقر في الأفكار.

فما هي السمات الاستثنائية التي يتمتع بها الأسلوب الكتابي لاوليفيه رولان التي استحق لأجلها هذه الجائزة. كتب الناقد الادبي لصحيفة لوبس الفرنسية غريغوار لوميناجه أن « الموضوع التاريخي الذي تدور حوله الرواية هو موضوع واسع ومهم وصعب على المعالجة. ففي هذا النوع من التراجيديات ذات الجانبين الفردي والجماعي يكون للشكل ذات الأهمية للمضمون، بل وحسب ما يرى بارت فأن للشكل الدور الحاسم. وهذا ما استطاع ان يحققه رولان. فقد استطاع بأسلوبه المتفرد ان يخلق شكلا يعادل بقوته قوة المضمون. برزت مهارته الاسلوبية في اقتباساته من رسائل الراصد المؤثرة الى زوجته ومن محاضر استجواب الشرطة السرية ورسومات الاب الشجاع لأبنته وإجادة وضع هذه الوسائط في مكانها المناسب داخل النص، كما برزت مهارته في الكيفية التي كان يطرح فيها تساؤلاته دون السقوط في نرجسية عقيمة، تساؤلاته حول الأسباب التي دعت فرنسي ولد عام 1947 وآمن في لحظة من حياته بالفكر الثوري الى الانجرار نحو هذا الكابوس الآتي من زمن آخر. استطاع ان يقدم كل هذه العناصر ويؤلف بينها ويصيغها بمنتهى الرصانة دون اغراق في العواطف او محاولة لجعل الضحية بطلا. وهذه النقطة بالذات هي احدى مواضع براعته التي تظهر بأن اليكسي فيودوسفيتس وان كان مثاليا في آرائه الا انه لم يكن شخصا استثنائيا. كما تتجلى مهارته الفنية في جعل نفسه غير مرئي كي يغوص في ثنايا الروح الثورية لهذا الرجل الذي اصر على عناده بعدالة الرفيق ستالين الى النهاية تقريبا وانطلاقا من هذه الشخصية مضى الى سبر الفكر الشامل في طغيانه ودمويته. كما نقرأ في اعلان حصول هذه الرواية على جائزة الأسلوب عام 2014بأن محكمو الجائزة يثنون على «الفخامة، والرؤية، والتمكن والطابع الادبي الفريد التي ميزت أسلوب اوليفيه رولان في رسم شخصية الرواية “

اوليفيه رولان هو احد كبار الوجوه الأدبية لجيل ما بعد الحرب العالمية الثانية في فرنسا.ترجمت رواياته التي يتجاوز عددها الثلاثة عشر رواية، الى مختلف اللغات الاوربية نال اوليفية رولان شهرة واسعة بعد صدور روايته بور سودان التي حصلت على جائزة فمينا عام 1993. في هذه الرواية القصيرة يضع رولان النواة الأولى لأفكاره التي سيطورها فيما بعد في رواية « ميروه « و « نمر من ورق « التي ينقد فيها ذاته و تصور مرحلة انتقاله من الماضي الثوري الى الحاضر المطهر.

تتحرى اعمال رولان الأدبية في الجغرافية الأدبية والتاريخ وتتوقف عند الحركات الثورية والرأسمالية والأديان الموحدة، أفكاره مستلهمة من احداِث أيار68 ومن ميوله اليسارية البروليتاريه ومن مغامراته الرومانسية إضافة الى عديد رحلاته وبالأخص تلك التي قادته الى روسيا.

ولد اوليفيه رولان في 1947 في بلدة بولون بيلانكور في ضواحي باريس، أمضى ردحا من طفولته في الكونغو والسنغال، وعاد الى فرنسا ليواصل دراسته في ليسيه لوي لو غراند وفي مدرسة المعلمين العليا. حاصل على شهادة جامعية في الفلسفة والآداب. اصبح عضو قيادي للمنظمة الماوية لليسار البروليتاري، وانخرط ب « الجناح العسكري للمقاومة الشعبية التي حافظت على سلميتها حتى حل اليسار البروليتاري نفسه عام 1973. لا يقتصر انتاج رولان على الكتابة الروائية فهو كاتب مقالات أدبية ورحلات وعمل كصحفي مستقل مع صحيفتي ليبيراسيون ونوفيل اوبزرفاتور. حصل عام 2010 على جائزة الادب الكبرى، بول موراند من الاكاديمية الفرنسية عن مجمل انتاجه الادبي، هذه الجائزة التي تمنح مرة كل سنتين لكاتب عن احد او مجموع اعماله التي تمتاز بالجودة الفكرية العالية وفرادة أسلوبها وبروح الاستقلال والحرية.

لهذه الأسباب وغيرها رأينا من المهم تقديم الكاتب اوليفيه رولان الى القراء العرب، لتكون هذه الترجمة للراصد الجوي الترجمة الأولى لأعماله الى اللغة العربية.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

موسيقى الاحد: الدرّ النقيّ في الفنّ الموسيقي

في مديح الكُتب المملة

هاتف الجنابي: لا أميل إلى النصوص الطلسمية والمنمقة المصطنعة الفارغة

جنون الحب في هوليوود مارلين مونرو وآرثر ميلر أسرار الحب والصراع

كوجيتو مساءلة الطغاة

مقالات ذات صلة

علم القصة: الذكاء السردي
عام

علم القصة: الذكاء السردي

آنغوس فليتشرترجمة: لطفيّة الدليميالقسم الاولالقصّة Storyالقصّة وسيلةٌ لمناقلة الافكار وليس لإنتاجها. نعم بالتأكيد، للقصّة إستطاعةٌ على إختراع البُرهات الفنتازية (الغرائبية)، غير أنّ هذه الاستطاعة لا تمنحها القدرة على تخليق ذكاء حقيقي. الذكاء الحقيقي موسومٌ...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram