لطفية الدليمي
كلُّ عمل مؤثر في هذه الحياة لابدّ أن يكون نخبوياً. النخبوية هنا ليست توصيفاً طبقياً ناشزاً أو توقاً لأرستقراطية مالية غاربة؛ بل هي توصيف حقيقي تفرضه الوقائع المختبرة.
قد يفيد التحشيد الجمعي للجهد البشري في أزمان بعينها عند مواجهة تهديد كارثي لايتطلبُ مقدرة نوعية في الفعل؛ لكنّ الفعل النوعي الذي يرتقي بالحياة البشرية في الأزمان العادية لابدّ أن ينطوي على جرعة كبرى من النخبوية. هذه بعضُ خصائص الحياة البشرية التي نعرف.
ليس البشرُ تجمعاً من كائنات ذات مواصفات قياسية، ولو كانوا كذلك فربما كنا سنعيشُ حينذاك أسوأ أشكال الديستوبيا المتخيلة.قد يولدُ البشرُ بقدرات متقاربة على المستويين الذهني والجسدي ؛لكنّ التدريب اللاحق ونمط التحفيز الذاتي والخارجي والجهد والدأب والمثابرة هي العوامل التي تفرضُ تمايزاً موضوعياً بين البشر، وتقودُ بالتالي إلى أن تكون النخبوية ضرورة حتمية مثلما هي شاخصٌ طبيعي.
النخبوية قرينة الندرة. كلّ ميزة نخبوية لابد أن تكون نادرة وإلا فإنها تصبحُ عامة مشاعة وتفقدُ نخبويتها المستحقة.
تبعثُ النخبوية في نفوسنا طعماً غير مستحب لكونها تشيرُ في العقل الجمعي العراقي إلى نمطٍ من الأرستقراطية المالية المقتصرة على بيوتات معينة.هذه نخبوية فاسدة. النخبوية الفاعلة والنبيلة هي التي يبلغها صاحبها بجهد صارم ومنظم تنظيماً عالياً وليست مزايا متوارثة بفعل الوراثة أو الوجاهة الاجتماعية.
أحدُ أفضل الميادين التي يمكن عدَها مختبراً حقيقياً للفاعلية النخبوية هو التعليم. هناك في الولايات المتحدة الأمريكية أكثر من خمسة آلاف كلية وجامعة من شتى الأصناف والأشكال؛ لكننا نعرف جميعاً (وربما من يتابعُ الأفلام الأمريكية يعرف هذه الحقيقة) أن العوائل الأمريكية تخطط منذ ولادة الأطفال وقبل تخرّج أبنائها من الدراسة الثانوية لكي يلتحقوا بجامعات النخبة، ويقتطع الآباء من رفاهيتهم ليدّخروا مالاً يفي بالأقساط الجامعية الباهضة. المالُ وحده لايكفي؛ إذ لابد أن يكون الإنجاز الاكاديمي لأبنائهم وافياً بمتطلبات القبول، وهي صعبة قاسية. الأمر ذاته – وقد يكون أقسى أضعافاً – هو مايحصلُ في الهند والصين وكوريا الجنوبية وسنغافورة وبريطانيا والبلدان الأوربية وكندا. هنا قد يتصوّرُ البعضُ أنّ المال شرطٌ حتمي لتحقيق نخبوية التعليم وارتفاع معاييره. كلا، الأمر ليس كما تتصورون. الدراسة في ألمانيا والبلدان الإسكندنافية شبه مجانية؛ ومع هذا فمعاييرها راقية ونخبوية وليست هبة مجانية تُمنَحُ لمن يشاء من غير جهد ومشقة. الندرة هنا هي المعيار: عندما تكون المقاعد الدراسية المتاحة أقل بكثير من الراغبين بالدراسة فلامفرّ من وجود آلية إنتخاب صارم. الدراسة الجامعية ليست حقاً طبيعياً للجميع مثل الأكل والشرب. عادل أن تكون الدراسة قبل الجامعة في الثانويات والمعاهد المهنية متاحة بالمجان (كالماء والهواء بمنطق طه حسين)؛ لكنّ الدراسة الجامعية أمر آخر وليست هِبَةً مجانية، ولابد من وجود معيار نخبوي فيها وإلا صارت امتداداً بائساً للدراسة الثانوية.
كانت دار المعلمين العالية في العراق (والتي كانت تُختصرُ بمفردة «العالية») مثالاً رائعاً لنخبوية التعليم العراقي؛ فقد ظلت على مدار سنوات طويلة مصنعاً للإنتلجنسيا العراقية النخبوية المثقفة، وكان صنيعها في الميدان الثقافي مماثلاً لما صنعته كلية الطب في الحقل الطبي، وكلية القانون في الحقل القانوني، وكلية الهندسة في الحقل الهندسي. لاأعرفُ الأسباب التي دعت لإلغاء هذه الدار؛ لكنّ المؤكّد أنّ وريثتها (كلية التربية) ليست الوريثة المستحقة لتلك الدار العريقة.
صار التعليم اليوم في العراق، الجامعي وماقبل الجامعي، ميداناً قبيحاً لحيتان الإستثمار الفاسد الذين ملأوا العراق مدارس وكليات أهلية ممسوخة من غير هوية. صار الشعار السائد اليوم: إملأ جيوبك مالاً، ولاتكترث أبدا إذا ماأصبح العراق بلد مولات ومدارس وكليات أهلية.
الكثرةُ تقتلُ الرفعة وعلوّ الشأن في ميدان التعليم؛ لأن الموارد المالية المتاحة والكفاءات البشرية عالية الشأن محدودة بطبيعتها،ولايصح تبديد الموارد على حشود من البشر غير الراغبين في التعليم بطريقة منضبطة وكفوءة. صارت مجاميع كثيرة من الطلبة تنظر للتعليم الأهلي وكأنه سعي للنجاح المسبق مدفوع الثمن. الحكومة من جانبها إستطابت هذا الوضع لأنه يتيحُ لها سبيلاً للتملص من إلتزاماتها المجتمعية، وصارت تتعامل مع التعليم وكأنه ميدان إضافي لجباية الأموال – غير أموال الريع النفطي – بطرق مباشرة وغير مباشرة، ونحنُ نعلم كيف تحصلُ مثل هذه الأمور الالتفافية في الكهوف المظلمة.
خسر العراق كثيراً بغياب «العالية» من المشهد التعليمي الجامعي العراقي، وستكون خسارته كارثية بكلّ المعايير في السنوات القليلة القادمة إذا ماظلّ حيتان الفساد يستغلون الناس ويستنزفون جيوبهم عبر لافتة التعليم الاهلي الزائف.