TOP

جريدة المدى > آراء وأفكار > المدى و.. حكايات العمود الساخر

المدى و.. حكايات العمود الساخر

نشر في: 7 أغسطس, 2022: 11:01 م

 د. قاسم حسين صالح

تعود اول تجربة لي في الصحافة الى سبعينيات القرن الماضي. يومها كانت تعدّ مجلة (الأذاعة والتلفزيون) هي الأكثر شيوعا لأنها كانت تضم صحفيين من طراز خاص بينهم الراحلان فالح عبد الجبار ومحمد الجزائري..

تعلمت منهم مهارات الفن الصحفي،وكيف تكون صحفيا مقروءا. ولقد وجد رئيس تحريرها الراحل زهير الدجيلي مبتغاه في (قاسم) فخصه باجراء تحقيقات صحفية مع مخرجين وفنانين وجد فيها انها توظف (السخرية) سايكولوجيا بما يجعل من تعنيه يبتسم او يندهش كيف ان (كذا) فيه وهو لا يدري.. الا في حالة واحدة اغضبت صاحبها يوم ظهر مقال ساخر في صفحتها الأولى بعنوان (مكافحة الأمية في الوسط الأذاعي)،فاصدر عادل الدلي مدير اذاعة بغداد امرا بانهاء علاقتي باذاعة بغداد حيث كنت اعمل مذيعا فيها،معتبرا ان المقال يخصه،وانتهى الأمر بعد اسبوعين الى ان يصدر الصحاف امرا بانهاء علاقة عادل الدلي بالاذاعة وعودتي اليها!.

وتعلمت من صحفيين كبار مضمون (السلطة الرابعة) وان على الصحفي ان يتصف بثلاثة: عين سحرية ترى ما لا يراه الآخرون،ونباهة في التقاط المخفي و(المستور)،والمصداقية..وأن يشعر بأنه محمي. ففي مقالة ساخرة بعنوان (التلفزيون التربوي..ربي كما خلقتني)،اتصل وزير التربية بمدير عام الأذاعة والتلفزيون يخبره بأنه سيحيل كاتب المقال الى المحكمة، فأجابه الصحاف: أقم الدعوى عليّ فانا المسؤول عن المجلة وليس الصحفي.

وانتقلت بعدها الى جريدة الجمهورية يوم كان رئيس تحريرها الشاعر سامي مهدي، وكان لي فيها عمود ساخر بصفحتها الأخيرة،فدعاني احد الأيام الى مكتبه وقال: استاذ قاسم..جاء تنبيه من جهة عليا يخص عمودك..ارجوك خفف نقدك الذي توجهه الى الدولة..شكرته وصافحته مودعا ولم أره من يومها.

وحصل ان تولى وزارة التعليم العالي اكاديمي تشبّع بثقافة فرنسية هو الراحل الدكتور منذر الشاوي،فاصدر جريدة بعنوان (الجامعة) اختار لها ستة صحافيين بينهم الدكتور ياس خضير البياتي رئيس التحرير والدكتور فجر جودة وحسب الله يحيى..وانا مسؤول الصفحة الأخيرة ولي فيها عمود ساخر. وفي احد الأيام اتصلت بي سكرتيرة تدعوني لمقابلة السيد الوزير..دخلت فقال:

- استاذ قاسم..اصعب شي بالصحافة هو العمود الساخر..وعمودك جيد،بس يحتاج شويه اتطوره.

فأجبته بكلمة واحدة: وتضمنى؟

ضحك واسند ظهره على كرسيه وقال:

- والله هاي راح تكون بين احتمالين..لو للقمة لو للأمن العامة!

ونأتي الى العزيزة المدى

بدأت علاقتي بها في العام (2004) بكتابة عمود ساخر بصفحتها الأخيرة...ليتجاوز عدد مقالاتي فيها السبعمئة مقالا..لتكون حكايتي مع المدى انموذجا للعلاقة بين هيئة تحرير تعتز بكتّابها وكاتب يبادلها الأعتزاز ذاته وان اختلف معها.

وللتاريخ،كانت المدى هي الجريدة الوحيدة بعد التغيير (2003) التي تتمتع بالجرأة في نقد السلطة والظواهر الاجتماعية. اذكر لها موقفا كاد ان يعرضني للتصفية الجسدية.فحين فتحت بريدي الألكتروني قرأت رسالة كانت بالنص(غدا يظهر لك مقال في المدى..وين تروح منّا دكتور قاسم)،وكان الموضوع بعنوان (الزيارات المليونية تحليل سيكوبولتك- موثق في غوغل)..ما اضطر محرر الصفحة الصديق احمد عبد الحسين(رئيس تحرير الصباح حاليا) ان يكتب موضوعا يندد بالتهديد والتشهير وينتصر لحرية التعبير،وادانة بليغة موثقة من السياسي المخضرم الراحل عزيز الحاج من باريس.

وبدءا من العام (2004) الذي شكّل البداية لتحولات اجتماعية وسيكولوجية جديدة على صعيد الفرد والمجتمع،خصصت (المدى) صفحة كاملة لي بعنوان (الأنسان والمجتمع).ولأن الصفحة كانت تتطلب تغطية ميدانية لتلك التحولات،فأنني استعنت بطلبتي بقسم علم النفس (فارس كمال نظمي، ندى البياتي،وانعام هادي) لرفدها ايضا بتقارير صحفية وحوارات وتقديم مشورات لمشكلات شبيه بتلك التي كنت اقدمها في برنامج (حذار من اليأس)...

وتبقى حقيقة يدركها كتّاب المقالات..لولا المدى لشعرنا بالأختناق،فالمدى كانت وتبقى الرئة التي يتنفس بها المفكرون والمثقفون والصحفيون الملتزمون بالحقيقة في زمن شاعت فيه ثقافة القبح والتجهيل والتفكير الخرافي..واتهام من يؤمن بالتفكير العلمي بالزندقة والألحاد. ورغم تعدد السناريوهات التي تنذر الآن بخطر كارثي،فأن (المدى) ستبقى(مثل شجرة السرو في رائعة تولستوي الحرب والسلم، لا تعترف إلا بالحياة والتجديد الدائم، قد تسقط منها أوراق بسبب عواصف الزمن، لكن أغصانها ستظل تنمو وتزداد ربيعا، بتعبير الرائع علي حسين).

يا (مدى) العراقيين..مبارك لك ولقائد مسيرتك الصديق فخري كريم، تهاني مفكرين وفنانين ومثقفين بعيدك العشرين،و وعدا أننا سنشعل الشموع في ساحة التحرير لتكريم كل العاملين فيك الذين واصلوا تحدي من يستسهل تصفية من ينتصر لقضايا المظلومين بقلم شجاع، ويهددون من يكتب العمود الساخر وما اخافته التهديدات،و (علي حسين) انموذجا، وسيواصلون مسيرتهم التنويرية،ويبقون مثل نبي يبشر الناس بيقين..بأن الطغاة مكانهم مزابل التاريخ فيما كتاب المدى مكانهم قلوب عراقيين وعدوهم بثقة الواثق بأن الشمس ستشرق غدا على عراق بهي يمتلك كل المقومات لأن يعيش اهله بكرامة ورفاهية.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

تعطيل الدوام غداً في ذكرى النصر على داعش

الخطوط العراقية: 1523 رحلة و214 ألف مسافر خلال تشرين الثاني

العدل: تأهيل 3000 حدث خلال عامين وتحديث مناهج التدريب وفق سوق العمل

إيران تكشف لغمًا جوّيًا يصطاد الطائرات المسيّرة من السماء

هيئة الرصد تسجل 8 هزات أرضية في العراق والمناطق المجاورة خلال أسبوع

ملحق معرض العراق الدولي للكتاب

الأكثر قراءة

البَصْرة.. لو التَّظاهرُ للماء والنَّخيل!

العمود الثامن: نصف قرن من التفوق

كلاكيت: في مديح مهند حيال في مديح شارع حيفا

العمود الثامن: مطاردة "حرية التعبير"!!

العمود الثامن: سياسيو الغرف المغلقة

العمود الثامن: سياسيو الغرف المغلقة

 علي حسين في السبعينيات سحرنا صوت مطرب ضرير اسمه الشيخ امام يغني قصائد شاعر العامية المصري احمد فؤاد نجم ولازالت هذه الاغاني تشكل جزءا من الذاكرة الوطنية للمثقفين العرب، كما أنها تعد وثيقة...
علي حسين

زيارة البابا لتركيا: مكاسب أردوغان السياسية وفرص العراق الضائعة

سعد سلوم بدأ البابا ليو الرابع عشر أول رحلة خارجية له منذ انتخابه بزيارة تركيا، في خطوة رمزية ودبلوماسية تهدف إلى تعزيز الحوار بين المسلمين والمسيحيين، وتعزيز التعاون مع الطوائف المسيحية المختلفة. جاءت الزيارة...
سعد سلّوم

السردية النيوليبرالية للحكم في العراق

احمد حسن تجربة الحكم في العراق ما بعد عام 2003 صارت تتكشف يوميا مأساة انتقال نموذج مؤسسات الدولة التي كانت تتغذى على فكرة العمومية والتشاركية ومركزية الخدمات إلى كيان سياسي هزيل وضيف يتماهى مع...
احمد حسن

الموسيقى والغناء… ذاكرة الشعوب وصوت تطوّرها

عصام الياسري تُعدّ الموسيقى واحدة من أقدم اللغات التي ابتكرها الإنسان للتعبير عن ذاته وعن الجماعة التي ينتمي إليها. فمنذ فجر التاريخ، كانت الإيقاعات الأولى تصاحب طقوس الحياة: في العمل، في الاحتفالات، في الحروب،...
عصام الياسري
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram