لطفية الدليمي
أمضيت بعض الوقت وأنا أتأمّلُ ذلك الفديو القصير الذي يظهر فيه شخصٌ تبدو عليه علامات السعادة المفرطة (حتى لو كانت تلك السعادة مصنوعة لإعتبارات دعائية) وهو يتناولُ طبقاً دسماً من (الباجة) مع ملحقاته. الطريفُ في الموضوع هو أنّ الرجل أردف تسجيله الدعائي بتصريح يقولُ فيه أنّ سرّ سعادة العراقيين هو (الباجة)، وأنّ الشعوب الأخرى يتآكلها الاكتئاب لأنّ مواطنيها لم يعرفوا لذة تناول (الباجة) في فطورهم الصباحي !!
نعرفُ أنّ مناسيب السعادة لدى كلّ الشعوب تتحقق طبقاً لقدرة الأفراد على تحقيق متطلبات مخطط ماسلو Maslow في تراتبية الحاجات الانسانية: الأولوية بالطبع لحاجات الأمان وإدامة متطلبات الوجود البيولوجي، ثمّ تأتي الحاجات الإجتماعية، وبعدها الحاجة للتقدير الاجتماعي، ثمّ الحاجة لتحقيق الذات Self – Actualisation. عندما نقولُ أن مناسيب السعادة الجمعية تنقادُ لمخطط ماسلو فالمقصود هو المعايير الاحصائية العامة للتحقق، وهذه المعايير تحكم المجاميع الكبيرة وليس الحالات الفردية.
لنأخذ الحالة العراقية كمثال جمعي للسعادة. كان العراقيون في المتوسط الغالب أيام السبعينات، وعقب تفجر أقيام المداخيل النفطية، يعيشون بطريقة يرونها وافية بمعايير السعادة بالمقارنة مع العقود السابقة. دعونا من السياسة وأحابيلها وارتكاباتها القاسية، نحكي هنا عن عامة الناس. إسترخى العراقيون بعض الشيء عقب عقود عديدة من الشد والجذب ومراكمة الهموم في العقول والقلوب. حصل أغلبهم على قطع أراض وقروض للبناء، وكانت أجهزة الفريزر لديهم تضمّ أكداساً من اللحوم والدجاج المستوردة من البرازيل وسواها. كانت وسائل اللهو متاحة للجميع بكلف معقولة، ولم تكن معالم الأصولية السياسية والدينية قد أطبقت على خناق البشر، وصارت كثرةٌ من العراقيين تسافرُ إلى أوربا لأن الدينار العراقي كان معروفاً بقوته الضاربة. التعليم المجاني والطبابة المجانية والخدمات البلدية كانت بمستوى جيد. ماذا يريد معظم البشر غير ذلك؟ بدأت بوادر الانكفاء عند نهاية العقد السبعيني وبعد تداعيات الحرب العراقية الايرانية، ثمّ طال السواد الحياة العراقية بكلّ مفاصلها أيام الحصار القاسية في تسعينات القرن الماضي؛ فقد إنحدرت هذه الحياة لتكون كفاحاً من طرف واحد لتأمين متطلبات الوجود البيولوجي فحسب. صار كثير من العراقيين يعودون بذاكرتهم لأيام السبعينات ويأسفون لها؛ حتى أنّ بعضهم صار يرى أنهم لم يقدّروا النعمة حق قدرها.
بالمقارنة مع أيام الحصار الاسود، وطبقاً لمخطط ماسلو، تدفعنا البديهة والاعتبارات البحثية الدقيقة للقفز إلى استنتاج مفاده أن العراقيين باتوا أكثر سعادة. سيعترضُ البعض أنْ ليس كل العراقيين يتقاضون رواتب عالية. هذا صحيح. لنجرّب أن نتناول عيّنة صغيرة (تصلح أن تكون عينة بحثية) من شريحة الموظفين ذوي الدخول العالية، ولنستشكف مقادير السعادة لدى هؤلاء. هل صاروا أكثر سعادة؟ هذا مبحث علمي وليس له أية علاقة بالانحيازات السياسية والآيديولوجية، والغرض منه بحث الأوجه المعقدة والمشتبكة لموضوعة السعادة.
هذا من الجانب الجمعي؛ أما السعادة الفردية فمسألة أكثر تعقيداً بكثير لأنّ المعايير الشخصية لاتنقادُ بالضرورة للاعتبارات الاحصائية العامة التي تحكم الجماعات الكبيرة. إليكم هذه الحالة : غريغوري بيريلمان Gregory Perelman، أحد عباقرة الرياضيات الروس والعالم، يعيشُ مع أمه في شقة بائسة من شقق الحقبة السوفييتية. إستطاع بيريلمان حلّ واحدة من أعقد المسائل الرياضياتية، وكان من حقه نيلُ جائزة المليون دولار التي خُصّصت لها؛ لكنه رفض الجائزة، كما رفض عرضاً مغرياً للتدريس في معهد MIT الأمريكي الأشهر على مستوى العالم. يرفضُ بيريلمان اللقاءات الصحفية، ويبدو ملتذاً بعزلته مع أمه، وله صورتان أو ثلاث يظهر فيها كمتشرّد ذي لحية طويلة يرتدي أسمالاً بالية. قد تقول عنه أنه غبي أو معتلٌّ نفسيٌّ أو مصاب بمرض عقلي ما ؛ لكن الأطباء واثقون أنه يعيشُ حياة رضية سعيدة بأكثر ممّا يتصوره معظم البشر.
السعادة موضوعة شديدة التعقيد وعصية على التبويب والتوصيف والانقياد لمعايير محدّدة مهما بدت علمية محكمة. سعيدٌ من يستطيعُ بلوغ مكامن سعادته وهي في مخبئها السري. لن يساعدك أحد في بحثك هذا لأنه بحث فردي خالص لاتنفع فيه المشاركة، ولن يضيرك أو يضير سواك شيءٌ أن تكون سعادتك متموضعة في صحن (باجة) صباحي عالي الدسامة، أم كانت في معايشة الجبهات الفكرية العليا للفلسفة والرياضيات والعلم والآداب والفنون.
جِدْ نبع سعادتك وارتشف منه قدر ماتستطيع. إن فعلتَ هذا فقد فعلت خيراً كثيراً لك وللآخرين، ولن يكون وجودك على هذه الأرض عبئاً ثقيلاً عليك وعليها.