د. حسين الهنداوي
لم يكن القس الفرنسي إيمانويل جوزيف سياس (Emmanuel-Joseph Sieyès) المولود عام 1748 في مدينة فريجوس بجنوب فرنسا لعائلة من عامة الشعب،
مجرد رجل دين بل كان ثورياً بكل معنى الكلمة اذ لم يبحث عن مال او سلطة او نفوذ بل دافع عن حقوق الشعب وبالمفهوم المثالي للكلمة لذا سيصطدم بقادة الثورة عندما وجدهم ينحرفون عن اهدافها متسببين بضياعها وعودة الملكية الى الحكم ما اضطره الى المكوث طويلا في المنفى بعد الثورة الفرنسية برغم كونه احد ابرز قادتها فيما يعد كتابه “ما هي الطبقة الثالثة؟” Qu’est-ce que le Tiers-État ?، ويقصد جماهير الشعب بمثابة النص الذي عجل في اندلاع الثورة الفرنسية عام 1789.
وسياس الذي أكمل دراسة اللاهوت في السوربون بباريس عام 1772، اظهر مبكرا اهتماما أكبر بالأفكار الفلسفية والفنون ونفورا من اللاهوت التقليدي متأثرًا بكتابات مفكري عصر التنوير وجون لوك وكوندياك وميرابو وتورغو والإنسكلوبيديين الفرنسيين، بعد ان كان قد تردّد في شبابه على عدد من الصالونات الأدبيّة التي دأبت على ترويج أفكار التنوير العلمانية. وبتأثير من ذلك، بدأ حياته السياسية بكتابة نشرات ثورية ليصبح لاحقا ضمن أبرز المساهمين في صياغة “إعلان حقوق الإنسان والمواطن”، وفي بعث الجمعيّة الوطنيّة. وقد لعب دورا مهمّا في مجلس طبقات الأمّة سنة 1789، وهي السنة التي اشتهر فيها كتابه المذكور اعلاه والذي جاء موضوعه حول مفهوم الشعب والسيادة الشعبيّة، واعتبر نصّا من أبرز النصوص المرجعيّة والمؤسّسة للثورة الفرنسيّة، إذ قدّم هذا الكتاب أساسا موحّدا للأمّة. وكانت محاولة سياس هذه مستوحاة من فكر جان جاك روسو، وطمحت إلى ابتكار علم عقلاني للسياسة ينطلق من «علم الاجتماع» الذي كان اول من صاغ مصطلحه في مخطوطة غير منشورة له. وتؤكّد إحدى النقاط الأساسيّة أنّ السيادة موجودة خارج الأشكال الدستوريّة، وان الإرادة الوطنيّة أصل الشرعيّة”.
وفي سنة 1795 طلب من سياس المشاركة في صياغة دستور جديد للجمهوريّة الفرنسيّة، فتقدّم بعدّة مقترحات لم تجد آذانا صاغية في زمنه، مثل فكرة مجلس المحلّفين (او القضائي) الدستوريّ، الذي اعتبره ضامنا لمراقبة مدى احترام المشرّع للدستور؛ أي دستوريّة القوانين، ولم يقع اعتماد هذه الفكرة إلاّ بعد ما يزيد عن قرن ونصف، وذلك في التعديل الدستوري الذي نشأت بموجبه الجمهوريّة الفرنسية الخامسة في 1958.
وقد تزعّم هذا القس الثائر ما يعرف بانقلاب ترميدور الذي أطاح بحكومة روبسبيير سنة 1794، وشارك في الحكومة الإدارية (أو الديركتوار) سنة 1799، وهي السنة نفسها التي تحالف فيها مع نابليون بونابرت (الأول) للانقلاب على هذه الحكومة، وتعويضها بحكومة القناصل. ومع عودة الملكيّة، عاش سياس منفيّا في بروكسل قبل ان يغادر الحياة في باريس سنة 1836.
وتنبع اهمية كتابات سياس لا سيما هذا الكتاب «ما هي الطبقة الثالثة؟»، وكتاب آخر بعنوان «ما هي الامتيازات؟»، من الاهتمام الكبير الذي استقبل به من قبل الرأي العام الفرنسي قبيل الثورة، ومن دوره الحاسم في التعجيل بها والحث عليها اثر اندلاعها، بعد ان كانت الافكار السياسية والكتابات النظرية لفولتـيـر وروسو وديدرو والانسكلوبيديين الفرنسيين قد هيأت الأرضية والآفاق الإيديولوجية لإحداث قيام الثورة الفرنسية 14 تموز 1789، وهو دور اعترف له به معظم قادة الثورة الفرنسية أنفسهم بمن فيهم ميرابو وروبسبير. ويذهب كاتب المقدمة الى حد القول عن سياس: «نادرا ما وجد مثقف ملتزم استطاع عبر نشر كتاب ان يؤثر على إحداث عصره بهذه السرعة وبهذه القوة الفاعلة نظرا لأن كتاب « «ما هي الطبقة الثالثة؟» « بدا بحق بمثابة الحد الفاصل بين سقوط النظام السـيـاسي القديم وقيام الأنظمة الحديثة في اوروبا» . وكانت الطبعة الاولى للكتاب ظهرت في شهر كانون الثاني 1789 من دون اسم المؤلف، خوفآ من بطش وانتقام سلطة الملك البوربوني لويس السادس عشر، لكن نسخ الكتاب نفذت خلال أسابيع قليلة.
وكذالك الحـال بالنسـبة الى الطبعة الثانية ثم الثالثة (التي حملت اسم المؤلف هذه المرة). ثم راحت الطبعات تتوالى بشكل مدهش حتى بلغ عدد النسخ بعشرات الآلاف خلال فتـرة الأشهر الستة الفاصلة بين صدوره للمرة الاولى وبين اندلاع الثورة الامر الذي جلب شهرة سريعة وواسعة لايمانوئيل سياس ادت الى انتخابه بسهولة نائبا عن باريس في شهر ايار 1789، قبل ان يصبح أحد أبرز اعضاء الجمعية الوطنية بعد الثورة ثم شخصية رئيسية من شخصيات النظام الجديد.
وحينما نتأمل نص الكتاب، نجد ان مخططه «سهل جداً» كما يقول مؤلفه نفسه، حيث يقسمه الى مقدمة وستة فصول. يطرح في المقدمة ثلاثة أسئلة أساسية مع إجابته عليها مؤقتا، ثم يحاول في كل فصل من الفصول الثلاثة الاولى ان يطور اجابة تفصيلية على كل واحد منها. والأسئلة والأجوبة السريعة هي كما يلي:
ما هو الشعب؟
كل شيء.
ماذا كان مكانه في النظام السـياسي حتى الان؟
لا شيء.
ماذا يريد؟
ان يكون شيئاً.
إما الفصول الثلاثة الأخيرة فتضمنت منظورات حول الموضوعات التالية:” ماذا فعله الوزراء؟ وماذا اقترحه أصحاب الامتيازات من اجل الشعب؟ وماذا كان الواجب عمله لصالحه؟ وماذا يمكن عمله ليأخذ الشعب مكانــه اللائق؟ فقد دافع سياس عن مفهوم سيادة الشعب، والديمقراطية التمثيلية، واتهم طبقة النبلاء بانها مؤسسة مخادعة، وانها تفترس عموم الشعب الذي يعرفه سياس بأنه الامة بأكملها، أي “مجموع المشمولين بالمساواة في العيش تـحت قانون مشترك”. ونظرا الى ان طبقة النبلاء كانت تشذ عن هذه القاعدة، فقد اعتبرها غريبة علـى الأمة “لأن مهامها المكلفة بها لا تأتي من الشعب، أي لا تأتي من الدفاع عن المصلحة العامة أنما من الدفاع عن مصالحها الخاصة”. اذ لم يكره أحد طبقة النبلاء بهذه الشدة من قبل كما سخر من ادعاءات المنظرين الذين دافعوا عن حقوق لهذه الطبقة نابعة من أصولها الارستقراطية مقترحا إعادة جميع العائلات النبيلة إلى حيث أتت في الاصل.
وبعد ان يبين في الفصل الثاني أن الشعب لم يكن له أي شيء في النظام السـياسي القائم في عام 1788 وقبله، وان حقوقه كانت معدومة تماما، ينتقل في الفصل الثالث الى التأكيد بأن الشعب يريد أن يكون كل شيء. فهو يريد ان يكون له ممثلون في الإدارة والحكم، أسوة بالطبقات الاخرى، على أن يجري اختيار هؤلاء الممثلين عبر الانتخابات المنظمة وعلى أساس العدد وليس على أساس الحصص الطبقية.
وعموما فأن الاقسام الثلاثة الاولى من الكتاب تظل ذات طابع تاريـخي واستعراضي أساسا. إما الفــكر السياسي الحقيقي للمؤلف فنجدة أكثر عمقا ابتداء من الفصل الرابع حتى نهاية الكتاب، حيث يقوم بطرح افكار جديدة ومتبلورة واقتراح أدوات التحليل والعمل التي ينبغي برأيه على الشعب استخدامها لينتزع حقوقه. كما انه يطالب الشعب بفرض نفسه مصدرا وحيدا لكل شرعية عبر منح نفسه دستورا يحمي المواطنين والأفراد ويقرر المصلحة العامة وغيرها من المبادئ التي تضمن قيام نظام سياسي من طراز جديد، نظام تمثيلي يضمن المصلحة الوطنية، وليس نظاما ديمقراطيا تحكمه في الواقع الارادات الخاصة للنواب. ولذا فقد نظر إلى ايمانويل سياس على أنه ضد نظريات جان جاك روسو: ففي حين تحدث روسو لصالح الديمقراطية المباشرة وانتقد النموذج التمثيلي البريطاني، فإن سياس كان أقل ثقة بالشعب من روسو، لان “الشعب في بلد ليس ديمقراطيا لا يستطيع أن يتكلم، ولا يمكنه التصرف إلا من خلال ممثليه”. لذا ايد حصر حق الاقتراع بالأشخاص الجديرين به معتبرا أن التصويت مسؤولية او وظيفة وبالتالي لا ينبغي أن يشارك فيها سوى الأفراد الذين لديهم القدرة (الذكاء والمستوى الاقتصادي) لممارسة هذه الوظيفة. وعلاوة على ذلك، كان يؤيد ثنائية المجلسين، لكنها ثنائية مختلفة عن تلك التي يتمتع بها البريطانيون والولايات المتحدة، اذ طالب بمجلسين تمنع قيام أي ديكتاتورية بما فيها دكتاتورية اجتماع المجلسين.
هذه الآراء استقبلها النبلاء ورجال الدين والبلاط كما لو كانت استفزازا مباشرا لهم وهجوما يستهدفهم، وهذا ما يفسر الغضب الكبير الذي اظهرته السلطة ضد الكاتب والكتاب وذهاب المدعي العام الى تقديم اقتراح بحرق الكتاب في ساحات باريس وجنيف، معتبرا ان أي كاتب قبل سياس لم يذهب بعيدا حتى هذا الحد الصريح في تعبئة الشعب الفرنسي للثـورة ضد الملكية البـوربونية خصوصا وان صرامة اللغة وقوة الأسلوب وصراحة الأفكار جـعلت من الكتـاب وثيقة تحريضية من طراز استثنائي وخاص ولا مثيل لها بين آلاف الكتب والمنشـورات التحريضية التي ظهرت قبيل الثورة الفرنسية، حيث جمع سياس فيها بين أسلوب رجل الدين في مخاطبة الجمهور، وسخرية الأديب والسياسي، وعمق ووضوح الفيلسوف.