عبد المنعم الأعسم
علمتنا تحولات الصراع السياسي في العراق، وآخر اطوارها ذات الصلة بالانشقاق في بُنى الجماعات الدينية بان الطائفية من حيث هي تشكّل مجتمعي فئوي (غير طبقي) تستخدم خطابا خاصا بها، مفردةً وبلاغةً ومحمولاتٍ تتولى تجيّش التطرف بين اتباع الهويات الفرعية، وذلك لاتقاء الاستسلام الى الخطاب الوطني الجامع،
حيث يتبدى ذلك الخطاب في نصوص مخاتلة. زئبقية. متآمرة. مشحونة بالتأليب والغلّ والتعبئة ضد الآخر، لكن بمفردات وعبارات تفيض بالرحمة المغشوشة، والموضوعية الشكلية، وبالاستطرادات المنتقاة بعناية من محضر الانشقاق السياسي الذي عصف بالخلافة والدولة والادارات الاسلامية المتعاقبة.
وفي مفاعيل الحروب بين الدولتين العثمانية والفارسية، وثم الحروب الاهلية بين الطوائف الاسلامية، صار لكل فريق طائفي لغته وايماءاته وتاويلاته وادبه الفقهي–السياسي الذي يتجه بك من العام المتفق عليه (او هكذا يبدو) الى الخاص المختلف فيه (وهو المهم) لكن عبر انشاءات شديدة التعرج، لنكتشف في النهاية ان (العام) الديني لم يكن عاما، بل ديباجة افتتاحية لحشوة (الخاص) الطائفي الاستئصالي، في حين اتخذت من الدين رداء (أو هوية) لها: جملة متكلفة البناء، مشوّهة العرض، متضاربة الترجيع والتنصيص.
الاخر، بالنسبة للغةِ فريقٍ طائفي (لا يُحدد بالاسم) هو عقيدة منبوذة لا تريد الاعتراف بالحقائق المدعومة بالايات القرآنية الموثقة، وبالاحاديث المتفق عليها. والآخر، نفسه، قد يبدو (لفريق آخر) فكرة مشيدة على الضلال والبُدَع والانحراف والجهالة.
وقد تلجأ الجملة الطائفية الى تسفيه الاخر بواسطة تسفيه طريقة تفكيره، او طريقة التعبير عن قناعاته. تقول لنا: انظروا لهم كيف يجمعون حججهم من قمامات الكتب..او: كيف يتعاملون مع الدين المشترك بانتقائية مقصودة.. انهم يسيئون له.
في الخطاب الطائفي المحترف لا يبدو الحق (في بعده الطائفي) إلا بوجه واحد، نهائي، شامخ، لا يطاله الشك، ولا يصمد امامه اعتراض، وهو هنا يساجل «اضعف» حجج الآخر لتدعيم منظوره الطائفي، وليس «اقوى» تلك الحجج او اكثرها قربا للمنطق، ثم يعكف على ليّ المعاني لتتطابق مع مسطّح التحريض السياسي.
الفقه، في الجملة الطائفية، يوظف نفسه، في خدمة المشروع السياسي لأحزاب الطوائف وزعاماتها، والسياسة تتوظف في خدمة المشروع الطائفي للفقه. شيء من الفقه في تلامس سياسي، وشيء من السياسة في نسق طائفي. اما التاريخ فانه يبدو خلال حميّة المساجلات تاريخا واحدا، مدرسيا، لكن سرعان ما يفترق، على يد الجملة الطائفية، الى تاريخين (والدين الى دينين) يخطّئ كل منهما الآخر، إذ تقوم هذه الجملة بواجبها في انتاج البضاعة الكيدية، وذلك من خلال مبان لا أركان لها، ومعان لا اوتاد فيها.
والحال، ان الخطاب الطائفي، المعاصر، بحاجة الى معاينة معرفية، معملية، استقصائية.. فهو اخطر من الطائفية، نفسها.. بعد ان تمكن من خداع صبيان يركضون وراء ساسة يقودوهم الى المهاوي، وآخرين أطالوا لحاهم وارتدوا الدشاديش القصيرة وفجروا انفسهم وسط المارة.
استدراك:
«لقد تم شطب فكرة محاولة محاربة التطرف على أنها فكرة ساذجة».
جويشي إيتو (الخبير الياباني في فنون الاعلام)