زهير الجزائري
( 1-2 )
عرّفني عليه (هملت) في لحظة حرجة: على إيقاع الضربات الخافتة للموسيقار (ديمتري شوستاكوفيتش) يصعد هاملت ُسلماً ليسمع شبح والده الذي يطوف فوق القلعة وهو يروي بصوته الملحمي "الحية التي لدغت والدك نائمة الآن في تاجه".
كنت أرى هاملت يتتبع خيط الخيانة والبحر يهدر خلفه، و في نفس الوقت أسمع همهمات غامضة تصدر من الشخص الجالس إلى يميني والمسحور مثلي بملحمية المشهد (طالب مكي). الهمهمات تكشف العجز عن التعبير، لكنها ترفض القنوط للعجز. تُبتَر الكلمات في منتصفها وتذوب حوافها. لكنها تقول أكثر مما يقال.
من الفلم خرجنا حزمة تائهة من الستينيين بعد مشاهدةً فلم هاملت بطولة (إينوكنتي سموكتنوفسكي) و إخراج (غريغوري كوزنتسيف). غادرنا الفلم مشحونين بكلمات تأبى أن تخرج. مشينا على ضفة النهر و أحاديثنا مقطّعة بينها فترات صمت طويلة.
كنا أبناء جيل لم يعرف الصمت في حضور الجماعة. تأتينا الكلمات حين نتحدث دون تكلف كما التنفس. ما قرأناه في الكتب ليلة البارحة يصير حين نتحدث جزء من لغتنا اليومية. نستعير من القراءة مفردات عالم مفزع حلّت فيه غابات الأسمنت وصلبان الحديد محل ذاك العالم الريفي الذي مازال هنا. ما نقرأه أكثر حضورا مما نراه. على عكس الجيل العضوي الذي سبقنا عزلتنا القراءة عن مجتمعنا. نبدّد أفكارنا و أخيلتنا في هواء الأحاديث بدلاً من أن نضعها على الكتب. أغلب مشاريعنا الكبيرة مؤجلة ريثما تنضج في الرأس. هذا الرأس الذي يضجّ بالكلمات داخلة أو خارجة.
وجود طالب و سطنا نبتة غريبة. هو الوحيد الذي يصغي دون أن يتكلم. أتذكر إني تحدثّت معه حول غربة هاملت عن بلاط والده وهو يردد" كلمات، كلمات، كلمات…". بقامته الطويلة تسلط عليّ من فوق مثل علامة استفهام. يتابع شفتي بنوع من الانتباه والإشفاق على رجل يتحدث ولا يدرى بأن الآخر لا يميّز الكلام بسبب عوق في السمع لازمه من طفولته. يتتبع حركة الشفاه ومنها يستقي نصف المعاني ويكملها من فطنته. حين وصلنا النهر تلبّس طالب شخصية هاملت وراح يوسّع خطواته كأنه يصعد سلماً ويمدّ يديه كمن يريد أن يمسك بعباءة الشبح. لكم يضيّع الكلام جسد المتكلم! لم يكرر طالب كلمات هملت.إنما اكتفى بالهمّهمة فعلاً. بقينا صامتين نراقب هملت وشبح والده والنهر الذي يمضي دون ان يعبأ بنا.
هذا هو طالب الذي عرفته في النصف الثاني من الستينات. يدرك تماماً ما ينقصة.لا يشكو أو ينفعل حين نعجز عن فهم ما أراد أن يقوله، تماماً كما هو هاملت في بلاط والده، مع ذلك اعتبر هذا العوق قدره و حوّلَهُ الى لعبة جسدية. أصوات يعذّبه نطقها بمقدار ما يعذّبنا فهمها، ومعها كثير من لغة الجسد. كلنا اعتبرنا الكلام أداتنا و هويتنا كمثقفين في عالم يتنكر لنا. هو يقدم جسده أولاً، باناقته الكلاسيكية ووقاره الذي يسبقه. أنظر إليه وأنا جالس جنبه، أدقق في حركاته وهو يرفع استكان الشاي ويمد شفتيه ليشفط، وأقولها لنفسي: لِمَ لا يتكلم مادام يشفط مثلنا تماماً؟هو نفسه لا يحتجّ على عسر الكلام، ربما يعتبر هذه الهمهمة كلاماً، أو إنه سَلَمَ بقدره؟
ظهرت الموهبة مبكرة عند الصبي القادم من الناصرية إلى بغداد و الذي لا يعرف القراءةً والكتابة و لا النطق فيعوّض بالرسم والنحت. الأمر الذي يسّر له القبول عام 1952 في معهد الفنون الجميلة بإرادة ملكية.
المعهد حين دخله طالب كان مختبراً للتجريب الفني بإدارة أساتذة بناة حداثة يحملون مشروعاً حررهم من ضرورات الهيبة. منهم تعلّم الطلبة كيف ينظرون للموديل و يستعيدونه ذاكرتهم ثم يرسموه على الورق. وفي جولات الخروج للطبيعة أو الحياة تعلموا اختزال التفاصل الى خطوط متقشفة وتجريد الألوان الى سطوح بسيطة.
أغلب الذين كتبوا عن الستينات، ومنهم الستينيون أنفسهم، تناولوها كظاهرة شعرية أو قصصيةً وأهملوا الجانب الفني. ومازلت اعتقد أن ستينيات الرسامين أهم من ستينيات الكتاب. كانت علاقتنا نحن الكتاب مع أساتذتنا علاقة قطيعة، فنحن نعتبر انفسنا نبتات نغلة بلا آباء زرعت في زمان ممزق قطعته الانقلابات عن سياقه. على عكسنا كانت علاقة الفنانين بأساتذتهم علاقة تواصل. ورائهم مؤسسة كبيرة هي معهد الفنون الجميلة وفيها جيل من الأساتذة الذين عادوا تواً من بلدان الدراسة محملين بالتجارب الطليعية التي شهدتها سنوات ما بعد الحرب الثانية. أسلوبهم في التدريس يعتمد المشاركة بدلًا من المحاضرة. يجلسون جنب طلابهم بدلًا من أن يقفوا في مواجهتهم ليلقوا المحاضرة. يرسمون معهم وفي كل لوحة لطلابهم لمسة منهم. لذلك أثروا في طلابهم. هذه المشاركة بين المعلم والطالب كانت الجسر الذي ربط بين الطالب مكي بالاستاذ جواد سليم. بواقعيته الأكاديمية تركت دروس فايق حسن دقة الحرفة وكيفية نقل الواقع على الورق، لكن تاثير جواد سليم المجدد كان كبيراً. هناك نقاط تشابه عديدة بين الإثنين. حرية التفكير ونزعة متأصلة في التجديد، مثل جواد نشأ طالب في بيت جدل وثقافة تحيط به عائلة موزعة بين الأدب والفن ووالد يدير في ديوانه مجلساً أدبيّاً ترك لأولاده حرية الاختيار.
بين المعلم والطالب نشأت علاقة عمليّة خارج جدران الصف. يرافق التلميذ أستاذه وهو ينتقي المشاهد والشخوص من مقاهي الميدان وسوق الهرج، وعمل الطالب مساعداً لاستاذه في بناء نصب الحرية. خلال الدراسة وخارجها نشأت بين الإثنين لغة إشارية مشتركة لا يعرف طلاسمها سواهما. في معرضه الأول الذى أقامه له صديقه الراحل (رافع الناصرى)، والحديث هنا لشقيقه الفنان أديب مكي، تحدث الراحل (نورى الراوى) عن علاقة الطالب باستاذه "كنا نذهب اثناء العطلة الصيفية الى أوروبا و نزور المعارض والتجارب الفنية الحديثة التي يقوم بها الفنانون هناك. و حين بدأ الموسم الدراسي عرض لنا استاذنا الكبير جواد سليم تجربة جديدة له و سألنا عن رأينا بها. تحدثنا، كل بما يملك من تجربة و رؤية، فلما حان دور طالب مكي، دعاه جواد سليم بقربه وأخذا يتحدثان بالإشارات و بكلمات مبتورة و جمل مقتضبة و نسونا تماماً".
وفاة جواد سليم، كانت كارثة شخصية لطالب كما يقول شقيقه أديب. "فقد مرض طالب لعدة أيام، وقضى الأيام التالية بحزن شديد. يمشى وحده في شوارع شبه مقفرة باكياً. ولكنه مع الوقت تغلب على حزنه وصنع تمثالاً ضخماً، لراس المعلم جواد. واودعه احاسيسه وعواطفه وامتنانه. لا يزال التمثال بنسخته الجبسية معلقاً في معهد الفنون الجميلة".
التجديد كان هاجسنا نحن الستينيين، وأنا منهم. كنّا ننتظر من الرسامين والنحاتين خطوة تجديد مدهشة. ولا نعرف لماذا يلجأ الرسامون الى الكتابة للتعبير عبر الحروف والكلمات لتوضيح فكرتهم عن التجديد. يذهبون إلى الكلمات، وهي حروف سوداء على ورق أبيض، لنشر بيانهم! لديهم كل الألوان والمواد، مع ذلك يلجأون للكتابة، بينهم من ترك الرسم وذهب الى الأدب!
الفنان الستيني مثل معلميه، العراقيين أو الأوربيين ميّال للتنظير لعمله،لا يكتفي بالرسم وحده، إنما ينظِّر للمدرسة الفنية التي جاء منها أو سيذهب اليها، لذلك تشكلت مجموعات تنتمي لمدارس عديدة، جماعة الأكاديميين، المجددين، بغداد للفن الحديث…