ثائر صالح
استعملت ماكنة الدعاية النازية التي أدارها غوبلز تعبير الموسيقى المنحطة لوصم الموسيقى والموسيقيين على أسس عرقية وسياسية، وكان ذلك جزءاً من حملة شاملة لمحاربة الفن المنحط عموماً حسب تعبيرهم.
كان هدف الدعاية النازية حظر الموسيقى والفنون التي اعتبروها ليست ألمانية أو ليست آرية ومحو أي أثر لها وللمبدعين الذين أنجزوها، وغرس الكراهية ضدها بين الألمان. ويجيء هذا ضمن إطار السياسة النازية التي “تخلق” أعداء تسميهم بالاسم يخيفوا بهم السكان، ثم تدعي بأن السلطة سوف تحميهم من هؤلاء الأعداء المزعومين. وجرى التضييق على من ورد اسمهم في القائمة السوداء ومنعهم من مزاولة نشاطهم وصولاً إلى تصفيتهم أو تهجيرهم أو إجبارهم على الصمت في أحسن الأحوال. ويتكرر هذا السيناريو في الكثير من الدول منذ النازية حتى اليوم بأشكال متعددة.
يجري في المقابل إعلاء شأن أنماط فنية وفنانين يمثلون السلطة، ونعرف إن الفن الجيد لا يمكن خلقه حسب المقاس مثلما تصنع الجزمة حسب تعبير برتولت بريشت. في الحقيقة لا يستطيع الفن المسيّس تقديم نتاج ذي قيمة وفق شروط الطرف السياسي، سواء كان السلطة أو معارضتها على نفس القدر، ويندرج هذا النتاج ضمن مفهوم الدعاية فحسب. فحرية الإبداع شرط أساسي لخلق فن ذي قيمة، انطلاقاً من قناعات وآراء الفنان السياسية والاجتماعية.
نظّم النازيون معرضاً في دوسلدورف افتتح في 24/5/1938 يعرضون فيه “الموسيقى المنحطة” ضمن أسبوع للاحتفال بالموسيقى القومية الألمانية، جمعوا فيه مواد صوتية ونصوص وصور عن كل ما لا ينتم للموسيقى الألمانية في نظرهم. هاجم المعرض الموسيقيين الذين صنفوا كيهود مثل مندلسون ومالر، وموسيقى الجاز (ووصمت بموسيقى العبيد Nigger) وحتى أشكال موسيقية واسعة الانتشار وشعبية مثل فن الأوبريت، واعتبر الموسيقى اللا تونية (Atonal) هلوسة تسخر من روائع الموسيقى الكلاسيكية وتتجاهل التقاليد المقدسة. نظّم المعرض المدير السابق لمسرح فايمار هانس سيفيروس تسيغلر وهو من غلاة المعجبين بهتلر. نقل المعرض إلى فايمار وميونيخ وفيينا، ولولا اندلاع الحرب الثانية في 1939 لجرى نقله إلى مدن أخرى في الرايخ الثالث.
يلخّص ملصق المعرض الجوهر العنصري لمنظميه: عازف ساكسوفون (يرمز لموسيقى الجاز) ذو ملامح أفريقية (عنصرية ضد الزنوج) هو أقرب إلى شكل قرد يحمل على صدره نجمة داود (عنصرية ضد اليهود). وركّز النازيون على اسم جوني الذي يمثل ثقافة السود “المنحطة” في حملة واسعة، والرمز الذي استعمله النازيون في حملتهم هذه كان من دون شك أوبرا جاز وضعها الموسيقي التشيكي - النمساوي الأصل (الأمريكي لاحقاً) أرنست كْرَنَك أو كْجَنَك (1900 - 1991) بعنوان “اعزف يا جوني” شخصيتها المحورية عازف جاز أفرو - أمريكي، زير نساء سرق كماناً ثميناً. حتى الملصق النازي كان تقليداً لغلاف طبعة مدونة الأوبرا التي قدمت هي الأُخرى في 1927.
كان استعمال اسم جوني إشارة في نفس الوقت إلى أغنية شانسون لمارلينه ديتريش المغنية والممثلة الألمانية الشهيرة “جوني، متى عيد ميلادك” وهو شانسون لاقى نجاحاً وشهرة كبيرين في 1927، في محاولة للنيل من هذه المغنية المتمردة على تقاليد ذلك العصر.