TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > مرساة: جوزيف عزّو

مرساة: جوزيف عزّو

نشر في: 23 أغسطس, 2022: 11:15 م

 حيدر المحسن

أيّ سماء جاءتني في هذه اللّيلة السّاخنة المغبرّة بالرّجل النَسمَة، أستاذ الكيمياء في صفّ الأول في كليّة الطبّ! طول فارع وبدن مكتنز ووجه عريض وصوت جهوريّ. وكان يمهّد في تلك الساعة جوّ الصفّ كي يتلو علينا أسماء المركبات الكربوهيدراتية (النشويّة) الطويلة والصعبة والمعقّدة. قال:

- أنقل لكم صورة هذه المواد باختصار؛ المركّب الكيمياوي ضئيل القيمة في الوجود يكون له اسم تافه مثل شوشو أو بسبس، أما المادة عظيمة الأثر فهي تحمل اسم جوزيف، حتما! ونطق الأستاذ اسمه برسمه اللاتيني: جووزِف.

من خلال النوافذ العديدة للمبنى كانت تطلّ علينا سماء تشرين الصافية، مجرد إطلالة لحظية عليها تُغرق المشاهد بحبّ غامر وعميق لهذه المدينة العظيمة والجميلة، بغداد، وجمالها مصدره عظمتها، وليس العكس. لا يستطيع أيّ شخص في الكون، حتى لو كان من سكان القطب، أن تكون علاقته مع مدينة مثل بغداد عابرة، وليس فيها مصدر إشعاع يضيء له يوما في حياته. وكانت شمس بغداد تصلنا في ذلك الضّحى البهيّ، ونحن نُحصّل العلم في مبنىً تحيط به الجوامع من كلّ صوب، اللّمعة في زخرفة قبابها تُشعر صائغي الجواهر بالخجل. لم يتصل زماننا في ذلك الحين بزمان جوزيف عزّو غير شهرين أو ثلاثة، انتقل بعدها إلى كلية طبّ الموصل، لكن المحاضرات القليلة التي جاد بها الحظّ علينا تركت فينا أثرا من شخصه لا يمّحي، كذلك هو الرجل العظيم، تلقاه ولو ساعة أو أقلّ، ثم يختفي، لكنه يبقى حاضرا في خاطرك طوال الوقت، فهو يقوم بدور الأم الجديدة لك، وكذلك الأب. مثل عراقي: “بنيادم (بني آدم) له أمّين وأبّين»، وتُنطق الباء هنا مشدّدة مرتين.

هل أقول إنّا تعّلمنا من أستاذنا من خلال سلطته العلمية والأخلاقية كيف نتجنّب أن تكون أسماؤنا قليلة، مثل شوشو وبسبس، لكننا عرفنا منه في الحقيقة أكثر من هذا:

المكان: مختبر الكيمياء في المبنى رقم 1 في كلية الطب، الطّابق الأول.

الزمان: 1980، وكانت الحرب تقرع طبولها الكبيرة في كلّ مكان.

أمسك جوزيف عزّو بالدّورق، وكانت السيجارة في فمه وعينه اليسرى مغمضة بسبب الدخان، وكان يعلّم أحدنا كيف يقيس حجم ووزن وثقل قطرة من السّائل في الدّورق، ثم يَسكبها مفرَدة، بحجمها ووزنها وثقلها، في أنبوب الاختبار. لم يكن المشهد يحتاج إلى موسيقى تصويرية، لأنه كان مكتفيًا بذاته، ومع ذلك كانت جميع طبول الكون الصغيرة تُقرع، والجميع في الصّفّ يرقبون الذّراع العبقرية -ذلك أن اسم صاحبها لا شوشو ولا بسبس- وهي تميل بقدر كأن العدالة لو جرت وفق ميزانها لعمّ الكونَ السّلامُ والسّعادةُ والحقُّ. ثمة أفكار عظيمة وكبيرة تنهال علينا كلّ يوم دون أن ندري. أكثر من دقيقة طويلة والذراع تقيس القطرة، وما إن تأكد جوزيف عزّو من دقّة التصويب، أنزل القطرة كاملة، بحجمها كلِّه، ووزنها وثقلها، وكان أن سكتت الطّبول، وسكت معها العالم الصاخب، لأن العدالة حلّت على أرض كوكبنا.

انتهى فصل قياس حجم القطرة من المحلول الكيميائي، وانطلق الأستاذ يتحدّث إلينا بقوة وغضب، بكل الغضب الذي في الحياة، ومع هذا فقد كان جوزيف عزّو يتحدث إلينا بأناقة وزهو يدلانّ على شغفه بعمله، ويؤشر بيديه السّمينتين والمشعرتين وبأساريرَ مفتوحةٍ تدلّ على صحّة عالية في الرّوح والبدن، الغريب أننا لم نقرأ أفكار أستاذنا في تلك السّاعة. كان يقول لنا لو أن ذرّة واحدة من الحقّ ضاعت، فسوف يختلّ ميزان القيَم والأخلاق والجاذبية والعدل، وكلّ شيء...

في تلك الأيام أعلن العراق حربه على إيران، ومنذ تلك الساعة أخذت أنهار من اللاّجدوى تنهمر كلَّ يوم علينا، وما أكثر ما أتانا سيلها العنيف والعاتي بأقوام شوشو وبسبس. أين أستاذي الجليل السّاعةَ؟ هل يسمعني ويعيد التّجربة ثانية، عسى أن تجري المقادير مثلما كان يحسب ويرى ويقدّر.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

هل ستعيد التشكيلة الوزارية الجديدة بناء التعليم العالي في العراق؟

العمود الثامن: معركة كرسي رئيس الوزراء!!

العمود الثامن: من كاكا عصمت إلى كاكا برهم

العمود الثامن: عبد الوهاب الساعدي.. حكاية عراقية

السيد محمد رضا السيستاني؛ الأكبر حظاً بزعامة مرجعية النجف

العمود الثامن: يزن سميث وأعوانه

 علي حسين منذ أيام والجميع في بلاد الرافدين يدلي بدلوه في شؤون الاقتصاد واكتشفنا أن هذه البلاد تضم أكثر من " فيلسوف " بوزن المرحوم آدم سميث، الذي لخص لنا الاقتصاد بأنه عيش...
علي حسين

كلاكيت: مهرجان دهوك.. 12 عاماً من النجاح

 علاء المفرجي يعد مهرجان دهوك السينمائي مجرد تظاهرة فنية عابرة، بل تحوّل عبر دوراته المتعاقبة إلى أحد أهم المنصات الثقافية في العراق والمنطقة، مؤكّدًا أن السينما قادرة على أن تكون لغة حوار، وذاكرة...
علاء المفرجي

فـي حضـرة الـتـّكـريــم

لطفيّة الدليمي هناك لحظاتٌ تختزل العمر كلّه في مشهد واحد، لحظاتٌ ترتفع فيها الروح حتّى ليكاد المرء يشعر معها أنّه يتجاوز حدود كينونته الفيزيائية، وأنّ الكلمات التي كتبها خلال عمر كامل (أتحدّثُ عن الكاتب...
لطفية الدليمي

سافايا الأميركي مقابل ريان الإيراني

رشيد الخيّون حصلت أكبر هجرة وتهجير لمسيحيي العراق بعد 2003، صحيح أنَّ طبقات الشعب العراقي، بقومياته ومذاهبه كافة، قد وقع عليهم ما وقع على المسيحيين، لكن الأثر يُلاحظ في القليل العدد. يمتد تاريخ المسيحيين...
رشيد الخيون
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram