علي حسين
لا أعرف عدد المرات التي تصفحت فيها موسوعة المؤرخ إدوارد غيبون صعود وسقوط الإمبراطورية الرومانية، قارئاً ومتمعناً في الدروس والعبر التي تقدمها لنا تجارب الشعوب..
أتذكر المرة الأولى في بداية الثمانينيات حين نبهني أستاذي عبد الرحمن طهمازي إلى القيمة الكبيرة لهذا المؤلف الضخم، حينها لم أستطع أن أكمل الجزء الأول، فقد كنت أشعر بدوران كلما طاف بي المؤرخ في صراع الأفكار والجدل حول انهيار هذه الإمبراطورية التي قضمت في زمن ما نصف الكرة الأرضية.. ومع مرور الزمن اكتشفت معنى أن نتعلم الدرس من الأمم التي توهمت أن الميزان يمكن أن يكون مقياساً لكل شيء إلا العدل.. يخبرنا مؤلف الموسوعة المثيرة أن الإمبراطوربة الرومانية سقطت حين استباح الحاكم لنفسه عمل كل شيء باسم القانون، وعندما أصرّ على استعباد الناس وقهرهم تحت شعارات الوطنية والقومية.. تسقط الدول حين يفتح الحاكم أبواب التنكيل والتهميش والإقصاء والقتل، ويغلق نوافذ التسامح والمحبة والعفو، وتعمر البلدان حين يؤمن حكامها بأن الحرية حق، والأمان حق، حين يؤمن المسؤول بأنه خادم للناس، عادل معهم أكثر من عدله لأقاربه وأصحابه، وأن يعتبر الحكم أمانة، وأن يقود الناس إلى حسن صفاء الأيام والليالي.
كان العراقيون ينتظرون نهاية حقبة الدكتاتورية، كي يخرجوا إلى النور، فقد أرهقتهم مدن الحروب والمقابر الجماعية، وبلغت أثمان الاستبداد مئات الآلاف من الضحايا وشعب يعيش معظمه تحت مستوى الفقر، فإذا بهم يجدون أن الوطن يخطف من قبل ساسة مصرّين على أنهم الأوصياء على أحوال الأمة والعباد.
لا يوجد أعظم من قادة يرسخون مبادئ المصالحة والحوار بديلاً للغة الثأر والانتقام، الناس بحاجة إلى مسؤول يراعي شؤونها، إلى رجال فوق الطائفية وشهوات المناصب .
يصرّ ألبير كامو على أن يقدم مسرحيته كاليغولا بواحدة من أعمق مقالاته عن الطغيان والاستبداد "ينشأ الطغيان من الجهل في أحوال الناس، ولعل أكثر الرذائل المستعصية على الحل هي ، جهل الحاكم الذي يتوهم بأنه يعرف كل شيء، ومن ثم يدّعي لنفسه الحق في استعباد الآخرين". وأعود إلى غيبون وموسوعته الشهيرة لأجده يخبرنا أن الخطر الحقيقي الذي يطيح بالبلدان هو الاستبداد والطغيان، حيث تجد الناس نفسها أسرى لأصحاب الصوت العالي، فيما المستبد يصرّ على أن يبيع للمواطن أمجاداً زائفة مقابل أن يحصل على مزيد من الثروات، مستغلاً خوفه وقلقه، يحيلنا المؤرخ أريك هوبزباوم إلى مقولة سينيكا الشهيرة فيكتب في "عصر التطرفات": "يحيط الظلام والخوف المدن والطرقات حين ينسى الحكام أنهم بشر من لحم ودم".
نعيش اليوم مع نواب الصوت العالي ، حيث لا صوت يعلو على صوت المنافع والانتهازية والمحسوبية والطائفية .