عبدالكريم يحيى الزيباري
الشاعرة المنفيَّة اختياراً أو اضطراراً، رَنا جعفر ياسين. نشرت في ديوانها (مقصلة بلون جدائلي/ دار سنابل، القاهرة، 2008):
نبوءةً تتحرك بين الحَدَس والصورة، تُضمِرُ الشعور بالتفوق وطموحٍ لا محدود، وتحاول كشف اللامسموع واللامرئي والأكثر غموضاً من القوة الاستعارية لكلمة مقصلة المدمرة، والقوة المجازيَّة لكلمة بلون جدائلها الحمر السود. تعرضت للخطف في آب 2006، فهاجرت إلى القاهرة حيث عملت مُعِدَّة ومقدمة برامج في قناة الشرقية الفضائية. تتكاثر المفردات التي تتضمن دلالات على العنف في ديوانها، وتضطرب بين بغداد مكاناً والجسد مَسْكَناً للعنف، وكل دلالة على العنف هي دلالة هِجاء.
يثبت البرازيلي روبرتو مانغابيرا أونغر، نبوئية الشعر بجعلها قياساً (في عصر الديمقراطية والمشاركة السلمية أو الحربية بين كل أجزاء الإنسانية، فإنَّ الفلسفة مثلها في ذلك مثل الشِّعر والسياسة، يجب أنْ تكون نبوئية/ prophetic، يمثِّل محتوى نبوءتها، رؤية لكيف يمكننا أنْ نستجيب، الآن وبالأدوات المتوافرة لدينا، لتجربة ضياعنا في فراغ يتكون من الزمن، إلى بدايته ونهايته التي لا نستطيع رؤيتها، الذي لا يُبالي بمخاوفنا، إنَّها نبوءة تتعلق بطريقة تحررنا وارتقائنا في عالم الزمن) يقظة الذات: براغماتية بلا قيود، ترجمة د. إيهاب عبدالرحيم، عالم المعرفة، الكويت، 2010، ص36.
عنوان أولِّ قصيدة، مُسْتَلٌّ من قصيدة الشاعرة الألماني فولكر براون (بصمتٍ كما في الحلم، تنسابُ الألغام) وبالكوابيس حاكَت وبجدائلها تاريخ مقصلتنا، مجزرة الشِّعارات القديمة لعيون مصبوبة من فولاذ الثورة. تتأرجح الاستعارة بين الحضور والغياب في القلق السياسي والعنف الذي خَيَّمَ على بغداد 2006-2010، وفتوى تحريم أسماك دجلة التي شبعت من الجثث المجهولة لأبناء بغداد المفقودين. أيتها الجدائل المُقَدَّسةْ، جئناكِ مثخنين بمجازات دمويَّة للخذلان وطعناتِ الجيران، نزحفُ في معاطفِ الجثث المجهولة، منكسرين مأسورين. نسألُ يا جدائل دجلة، عن نبوءة العذراء للخضراء، عن إشارةٍ أو علامة أو استعارة، عن امرأةٍ مسكونةٍ بالشعر تهجر بغداد، وهي تترنَّم بأبيات إليوت (لم يعد ضمير الشارع المُسوَّد، صابراً لِتَفَهُّم العالم)، هاجرت لتسكنَ الأبــــــ (ج) دية المفقودة، ماتت وبقيت جدائلها ترسم ألوانا للمقصلة، ترسم وتنتظر (بعد الموت. تنهض المدينة. من الأرض يخرجون بنصف مجزرة. وضوء مثقوب. أجسادهم المبنية من النار. لها بريق الشعارات القديمة. عيونهم المصبوبة من فولاذ الثورة. مازالت تُحَدِّقُ بمهرجانٍ سحيق. يسحلون الأرصفة بالخطوات. ناقرين الزجاج المعجون بماء الموت/ ص11). إليوت ينسبُ سوء الفهم للشارع، وتنسبه الشاعرة ياسين للمدينة الميتة. (المدينة الباهتة، ساقطة الألوان. تعتاد الصحوَ. ونموَّ القنابل. وهم اعتادوا عيونهم المُغْمَضَة المُحَدِّقة في قعر السماء/ ص14).
القصيدة الثانية بعنوان (فوبيا بغداد) وهي فوبيا الآخر المختلف، الذي يراكَ عدواً لا لسببٍ غير أنَّكَ مختلف، ورغم أنَّك لم تعرفه ولم تؤذه، لكنه لا يريد إلا قتلكَ، بسبب اسمك أو اسمِ أبيك، يقتلك في شوارع مثقوبة تقضم أنباء القتلى بمتتالية أرقام هندسية، و(ليست الأرصفة ضرباً من التدوين. كل ما ينتابها، يغسله عَصَف. ولا يبقى لها. غير الحجارة. ساخنة. تحضنُ أشلاء الصِّغار... عندما مرَّـ جحافلهم نَمَا خوف. وليلٌ عانقَ صبحه بركان كارثة. شوارعنا بلا لون. بلا نا. كل أرصفة الفراغ تماثلت للموت... لم يعد في الدرب مُتَّسَعٌ لأكداس البشر. جثثٌ تنامُ على المزابل/ ص18).
بعنوان (ندبة ضيقة بانعكاس مخبوءٍ) في دَمِ الضَّحايا المسفوك، كتبت صورةَ الدم المسكون بالخوف، لتحدسَ إلى أين يسير الخائفُ، الذي يرى الذَّبحَ في كل حركة (ذبح في أقاصي الروح يتوجَّعُ من رقاد طويل. نزف شارد. استوطن ما فات من الزمن. ثانية أخرى لم تجهض. رعشة بندول مازالت تتراقص كالمذبوح. حاربت الغيب بحبر يتألم. يتأوه. كلما تغنجت الأقدار عند أقدام الغانيات. أتوسط جرحي، أتمادى فيه. البرد يباغت دمي. مسكونا بالخوف/ ص39)