TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > مرساة: خنزير خوسيه ساراماغو

مرساة: خنزير خوسيه ساراماغو

نشر في: 30 أغسطس, 2022: 11:07 م

 حيدر المحسن

في فصل الشّتاء، عندما يشتدّ البرد ليلا وتتجمّد المياه في مجاريها، كان جدّ ساراماغو وجدّته ينتقيان الأضعف من بين صغار الخنازير لتنام معهما في السّرير، حيث كان دفء جسديهما تحت الغطاء ينجي تلك الصّغار من موت محتّم. أمضى الكاتب طفولته في بيت هذين العجوزين، وكان يعمل راعيا للخنازير، رجْلاه حافيتان، والقشّ عالق في شَعره، وهو يدور مع هذه الدواب.

كان تعليمه المبكر ضئيلا، أو معدوما، وعندما تسلم جائزة نوبل للآداب عام 1998 من الأكاديميّة السويديّة لم يسأله أحد إن كان حاصلا على شهادة جامعيّة أم لا، وفي الخطاب الذي ألقاه في حفل تسلّمه الجائزة، ذكر أنه كان راعيا للخنازير، وأنه ظلّ يمشي حافيا في الحقول حتى بلغ الرّابعة عشرة.

الجميع يعرف الكاتبَ روائيا، لكني أقدمه الآن كاتب قصّة قصيرة عنوانها (تعويض)، وتدور أحداثها في البيئة التي تربّى فيها، وأبطالها خنزير وصبيّ وإمرأة ورجلان . الجزء الذي يخصّ الصبيّ عملت به آلة القصّ، وسوف نتركه جانبا، لعلّنا لا نحتاج إليه إلى النّهاية. والقصة بالغة القِصر، لا تتجاوز ثلاث صفحات من القطع المتوسط، لكن تأثيرها قويّ إلى درجة أنه أنساني جميع روايات ساراماغو، وبقيتُ محتفظا بالحدث الأبرز فيها، وظلّ ينمو معي شهورا عدة، وقد حان موعد القطاف:

«كان ثمة رجل وامرأة يمسكان خنزيرا، ورجل آخر، بسكين متخثّر بالدم، يفتح طوليا في وعاء خصيتيْ الحيوان». لولا حبّ الكاتب البالغ للخنانيص التي تربّت معه، وكان يطعمها وتبيت معه في السّرير في ليالي الشتاء، لما ضربته في قلبه صرخة الحيوان المخصيّ، وجعلته يروي الحادثة كما لو كانت صرخة أخيه أو صديقه، أو صرخته هو. «وفي التبن كانت خصية مبتورة وحمراء. فيما كان الخنزير ينتفض، مطلقا صرخات من هيكله المطوّق بحبل، والجرح كان يتزايد، والخصية بدت حليبيّة بخطوط من الدّم». يشاهد الحيوان ما يجري وهو مربوط، وكان يخنخن ويقبع ويتلوّى في مكانه من الألم والحسرة، وينبش التراب، ويشاهد قارئ القصّة ويسمع صخب المنيّ في العضو المقطوع. يُدخل الرّجل الأول أصابعه، ويظلّ ينتزع أحشاء العضو ويلقيها على الأرض، وبقيت في الأخير الخصيتان سميكتين وبيضاوين وناعمتين في يده. الرجل الثاني يطلق الخنزير من وثاقه ويحرّر خطمه، والمرأة تراقب ما يجري شاحبة الوجه، مرتعدة القلب وممتعضة كأنها تعفّرت توّا بالرماد. كانت تشمّ عبيرا زخما في المكان، وانتظرت انتهاء القشعريرة، وصرخت بالرجلين:

- لماذا تضحكان، ما الذي يُضحك في الأمر؟

لم يكن أيّ منهما يضحك، وفي هذه اللحظة أخذ الرجل الأول يقهقه، وتبعه الثاني، و»استدار الحيوان حائرا، وأطرق، وبصعوبة التقط أنفاسه. حينئذ ألقى الرجل الأول الخصيتين إليه، فعضّهما الخنزير، مضغهما متلهّفا، وبلعهما”.

كانت المرأة تشمّ رائحة تبن مبلّل بالبول، وطنين حشرات لا تُحصى على أحشاء العضو المرميّة على الأرض. ثم أخذ الخنزير يرفس بأقدامه الأرض جزعا، وعيناه ميتتان باردتان، وفي هذه اللحظة نسيت المرأة أنها ترتدي بدلة العمل الكالحة، نسيت أنها لم تكن تمتلك حذاء، والقشّ يملأ قدميها والطّين. كانت منهوكة، خدرة، مشوّشة الذهن، وتبغي في الوقت نفسه تمييز الألم الذي سببه هذا المشهد وشعور غائم ينتشر في أنحاء جسدها لا تعرف ما هو بالضبط. لم تكن قد بدأت التفكير بعد، لكنها ترى نفسها الآن عارية، بقدمين نظيفتين والخنزير يقبّلهما، وعيناه فيهما وهج أحمر.

ترجم القصة المصريّ أحمد عبد اللطيف، ضمن مجموعة قصص من إسبانيا وأمريكا اللاتينية نشرتها دار شهريار، والجزء الذي تمّ استبعاده في هذا المقال والذي يحكي عن الصّبيّ يشغل ثلثي مساحة النصّ، والقصدية من ورائه واضحة للعيان، وهذه واحدة من آفات فنّ القصّ. أخيرا، وبما أني أعدتُ كتابة القصّة، فإنه لي الحقّ أن أختار لها عنوانا جديدا هو “اتّصال”.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

هل ستعيد التشكيلة الوزارية الجديدة بناء التعليم العالي في العراق؟

العمود الثامن: معركة كرسي رئيس الوزراء!!

العمود الثامن: من كاكا عصمت إلى كاكا برهم

العمود الثامن: عبد الوهاب الساعدي.. حكاية عراقية

السيد محمد رضا السيستاني؛ الأكبر حظاً بزعامة مرجعية النجف

العمود الثامن: يزن سميث وأعوانه

 علي حسين منذ أيام والجميع في بلاد الرافدين يدلي بدلوه في شؤون الاقتصاد واكتشفنا أن هذه البلاد تضم أكثر من " فيلسوف " بوزن المرحوم آدم سميث، الذي لخص لنا الاقتصاد بأنه عيش...
علي حسين

كلاكيت: مهرجان دهوك.. 12 عاماً من النجاح

 علاء المفرجي يعد مهرجان دهوك السينمائي مجرد تظاهرة فنية عابرة، بل تحوّل عبر دوراته المتعاقبة إلى أحد أهم المنصات الثقافية في العراق والمنطقة، مؤكّدًا أن السينما قادرة على أن تكون لغة حوار، وذاكرة...
علاء المفرجي

فـي حضـرة الـتـّكـريــم

لطفيّة الدليمي هناك لحظاتٌ تختزل العمر كلّه في مشهد واحد، لحظاتٌ ترتفع فيها الروح حتّى ليكاد المرء يشعر معها أنّه يتجاوز حدود كينونته الفيزيائية، وأنّ الكلمات التي كتبها خلال عمر كامل (أتحدّثُ عن الكاتب...
لطفية الدليمي

سافايا الأميركي مقابل ريان الإيراني

رشيد الخيّون حصلت أكبر هجرة وتهجير لمسيحيي العراق بعد 2003، صحيح أنَّ طبقات الشعب العراقي، بقومياته ومذاهبه كافة، قد وقع عليهم ما وقع على المسيحيين، لكن الأثر يُلاحظ في القليل العدد. يمتد تاريخ المسيحيين...
رشيد الخيون
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram