ثائر صالح
الجزء الثالث والأخير
تكلمت في الحلقتين الماضيتين عن الدعاية النازية وتأثيرها على الحياة الموسيقية في الرايخ الثالث. أختتمُ الموضوع اليوم في هذه الحلقة الأخيرة عن الموسيقيين الممنوعين ومصير أعمالهم الموسيقية.
من المؤسف القول أن النازيين قد نجحوا لحد ما في حرماننا من عدد كبير من الأعمال الموسيقية بسبب التعتيم عليها، وأتلفوا الكثير من الوثائق والمخطوطات المتعلقة بها. ولا نزال نجهل أعمال الكثير من هؤلاء الموسيقيين، خاصة أولئك الذين بقوا تحت رحمة النازية وأجبروا على الصمت أو الذين تمت تصفيتهم في معسكرات الاعتقال، ولا تقدم أعمالهم اليوم إلا ما ندر. لذلك نعثر في القائمة السوداء على أسماء مثل النمساوي الكسندر زملينسكي الذي قيّمه برامز عالياً، ودرست عنده آلما شندلر وأحبته قبل أن تتزوج غوستاف مالر. نجد في القائمة المؤلفة التشيكية وقائدة الأوركسترا فيتزسلافا كابرالوفا التي عاشت 25 سنة فحسب، لكنها تركت لنا كنزاً من الأعمال الموسيقية القيمة. أو التشيكي بوهوسلاف مارتينو الذي منعت أعماله على أساس سياسي بسبب معارضته للغزو النازي لبلده بينما كان يقيم في فرنسا، وقد هرب إلى الولايات المتحدة بعد احتلال فرنسا. ولا بأس من ذكر عمله ملحمة كلكامش، وهو عمل استمعت إليه سنة 1980 في بودابست.
وقد تمكن عدد من الموسيقيين من الوصول إلى هوليوود وأثروا الحياة الموسيقية هناك، مثل ماكس شتاينر (لعله أشهرهم، ألف موسيقى كنغ كونغ في 1933) وأريش كورنغولد ( حصل على جائزتي اوسكار) وفرانس فاخسمان (واكسمان) وكورت فايل وهانس آيزلر وآخرون. لم يحصل الكثير من هؤلاء الموسيقيين الألمان والنمساويين الذين اقتلعوا من بيئتهم الطبيعية على الاهتمام الذي يتناسب مع قيمتهم الفنية، وتجاهلتهم الأوساط الأمريكية، ثم تعرض اليساريون والشيوعيون منهم لاحقاً إلى عسف المكارثية. ويكفي أن نذكر النهاية المؤلمة لواحد من أعظم موسيقيي القرن العشرين، المجري بيلا بارتوك، بوفاته فقيراً مديوناً في غرفة إيجار بائسة في نيويورك سنة 1945 بعد أن تفاقم عليه المرض. ولم يكن بارتوك يهودياً ولا شيوعياً، لكنه اختار الهجرة الطوعية أملاً في الخلاص من كابوس النازية وحلفائها في المجر.
تعمل المؤسسات الموسيقية على البحث في هذه التركة الحزينة والسوداء في تاريخ الإنسانية. وتقدم اليوم المزيد من الأعمال المنسية لهؤلاء الموسيقيين الذين تعرضوا للمنع من قبل النازية، وتطلق بعض المؤسسات التعليمية برامج خاصة للتنقيب عن المخطوطات والمطبوعات ودراستها أكاديمياً وتقديمها ونشرها من أجل أن يستطيع الجمهور تقييمها بنفسه. من هذه المشاريع ذلك الذي أطلقته دار أوبرا لوس أنجلس بعنوان “الأصوات المسترجعة” لتقديم أعمال أوبرالية لهؤلاء المؤلفين، وهو عنوان استعارته مدرسة كولبورن للموسيقى في لوس أنجلس في إطلاق مشروع بحثي وتعليمي ويقدم طلبة ومدرسو المدرسة أعمال العديد من المؤلفين مع التركيز على أعمال إرفين شولهوف (المدى 14/8). التركيز هنا ليس على الأعمال الموسيقية المكتوبة في معسكرات الاعتقال بالطبع، فلا تزيد نسبتها عن 2 بالمئة من مجموع الموسيقى الممنوعة، بل على كم كبير من الموسيقى ألف منذ نهاية القرن التاسع عشر حتى 1945 طمسه النازيون، واستمر مطموساً بعد ذلك حتى اليوم استناداً إلى معايير ليست فنية، بل عنصرية وسياسية.