لطفية الدليمي
هل سمعتَ بالمقامرة الباسكالية؟ إذا لم تكن سمعتَ بها فليس في هذا ضيرٌ . هي يسيرة ويمكن تلخيصها في بضع كلمات : الإيمان بوجود إلهٍ خيارٌ أكثر عقلانية وأسلمُ عاقبة من عدم الإيمان بوجوده .
كان باسكال شخصاً نزيهاً ذا عفّة ومروءة وإيمان شخصي نبيل وأخلاقيات متينة يتلمسها المرء عندما يقرأ تأملاته ذائعة الصيت التي أصبحت واحدة من كلاسيكيات الثقافة الغربية والعالمية؛ ومع هذا لم تسلم أطروحته من نقد لاذع جوهرهُ: كيف تجعلُ علاقتك مع الإله ناتج حسابات إحتمالية منقادة باعتبارات الربح / الخسارة؟ ثم كيف تلعبُ لعبة غير نزيهة مع إلهٍ موصوف بأنه كلي القدرة والعلم والمعرفة؟ ألم تضع في حسبانك أنه سيعرفُ أدق الاسرار الخبيئة في قلبك حتى لو لم تبُحْ بها؟
وضعتُ المقامرة الباسكالية موضع المقارنة وأنا أنصتُ لأحد المنافحين عن التجربة السياسية العراقية بعد عام 2003 وهو يصرّحُ بملء الفم من منزله اللندني: لابأس بكلّ الخسارات التي حصلت منذ عام 2003 على كلّ الصُعُد. لابأس بخسارة مئات مليارات الدولارات. لابأس بكلّ القرابين البشرية التي غادرت هذه الحياة وهي لاتعرفُ أي ذنب إقترفت. هذه كلها محضُ ( بروفات ) تمهيدية لإتقان فنّ الحكم والسياسة. يريدنا هذا الأصولي( اللندني ) أن نقبل بكلّ الفساد وضياع الفرص ونعتبرها تضحيات لامفرّ منها .
هذه ثقافة فاسدة تسعى لترويض الشخصية العراقية على قبول الحال الراهن Status quo والرضوخ له واعتباره قدراً رتّبته قوى ماورائية تريدُ خيراُ بالعراق حتى لو حسبنا هذا الخير فساداً وضياع فرص بموجب قياساتنا البشرية. يُراد ترويض الناس على حالة من العماء الجمعي ورؤية الشر خيراً والباطل حقاً .
ليس الممسكون بزمام الأمور في العراق أحفاداً خلّصاً للمقامرة الباسكالية؛ بل ولاشأن لهم بباسكال النزيه. المفارقة شاسعة بين باسكال وهؤلاء: سعى باسكال لخلاصه الأخروي، وقدّم مقاربة لهذا الخلاص رأى فيها البعضُ شيئاً من رائحة المقامرة؛ لكننا لانعرف كيف سيتعامل معه الإله. هذا ليس شأننا. باسكال لم يسرق أو يقتل أو يقترف خطيئة أو فعلاً شائناً بحقّ فردٍ آخر نظير له في كينونته البشرية. أما المقامرون العراقيون الجدد فَهُمْ يفعلون العكس تماماً : يوظّفون إسم الإله في مقامرة أرضية يبتغون منها مزيد سلطة ومال، ويبدو واضحاً من سلوكياتهم التي خبرناها قرابة العشرين سنة أنهم غير معنيين بخلاصهم الأخروي الذي يفترضُ فيه أن يكون حجر الزاوية في آيديولوجيتهم المعلنة .
ليس من حقّ أحد، كائن من كان، أن يقامر بمصائر الناس على الأرض. الناس ليسوا رعاياك، وإذا كان باسكال قامر بتشكيل علاقته الأخروية مع الإله فليس من حقّ أحد أن يقامر بحياة الملايين على الأرض. الحياة على الأرض يجب أن تحكمها قوانين الأرض التي تشكّلت عبر خبرة بشرية طويلة . عندما تكون سياسياً شاءت ظروف أن تجعلك موكولاً بأمر الناس فدع ماللسماء للسماء وماللأرض للأرض، ولاتسعَ لأية مقامرة بين الأرض والسماء .
يجبُ على المقامرين العراقيين أن يعرفوا شيئاً – لو أرادوا، ولاأظنهم يريدون -: جعلتم العراق أرضاً لاتصلحُ للعيش وكأنها أرضٌ موبوءة، ولايبدو أنّكم ستصلحون شيئاً من مفاعيل الفساد الذي ضرب كلّ زوايا العراق. تذكّروا أنّ نصيحة كلّ والديْن لأبنائهما في أيامنا هذه هي: لاتفكّروا بالعيش في العراق؛ لأن المقامرين الارضيين الذين أضاعوا مكامن قوته وتطوّره إذا كانت لهم مصادر من الريع النفطي تغطّي على سوء أفعالهم اليوم؛ فماذا هم فاعلون بعد سنوات قليلة عندما تنضب مداخيل النفط، وهي ناضبة لامحالة؟ سيكونون أوائل من يفرّ من السفينة العراقية الغارقة، وسيكتفون برؤية من بقي من العراقيين الذين غدرهم هؤلاء المقامرون .
هذا ماخطّط له المقامرون : إكتنزوا أموالهم خارج العراق انتظاراً لأيام الشدائد التي يعرفون أنها قريبة، وإذا ماقلتَ لهم : وماذا عن مساكين العراق؟ سيجيبونك إجابات مائعة يخالطونها بمفردات الدين والمذهب؛ لكنهم في سرّهم يتهامسون ويتضاحكون على غشامة الناس التي لاتعرف كيف تصطاد الفرص المتاحة.
ليس من المعقول بأي شكل كان مقارنة باسكال بمقامري العراق الجديد؛ فَهُمْ فضلاً عن كونهم مقامرين سراقاً عبثوا بمستقبل العراق والعراقيين فإنّ باسكال سيكون أكثر من قدّيس لو قورن بأفضل واحد فيهم.